المكاسب التركية الأخيرة واحتمال بلورة شراكة تركية – روسية في التحكم بالملف الليبي تضع فرنسا أمام “لحظة الحقيقة” لأن إدارتها لمرحلة ما بعد القذافي كانت كارثية ويتم دفع ثمنها الآن.
تقر الأوساط الفرنسية بأن ما يجري في ليبيا حالياً هو “فشل أوروبي” و”فشل فرنسي” في المقام الأول. ويثير الانخراط المتزايد لتركيا بشكل مكشوف ولروسيا بالوكالة في ليبيا، المخاوف من تكرار السيناريو السوري حسب تحذيرات قائد القوات الأميركية في أفريقيا ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي اعتبر أمام مجلس الشيوخ أن “استمرار هذا الوضع على بعد 200 كيلومتر من الساحل الأوروبي يمثل تهديداً للأمن الإقليمي وأمن أوروبا”. وبالفعل مع تصاعد التدخل الخارجي في الصراع الليبي تهتز الوحدة الليبية، وأمن الجوار، واستقرار شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، وبالطبع التوازنات البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
إزاء هذا الواقع، يبرز الاتحاد الأوروبي كلاعب عاجز ومنقسم مع التكرار بأنه لن يكون هناك حل عسكري والتشديد على الحل السياسي وفق عملية مؤتمر برلين. لكن المكاسب التركية الأخيرة واحتمال بلورة شراكة تركية – روسية في التحكم بالملف الليبي تضع فرنسا أمام “لحظة الحقيقة” لأن إدارتها لمرحلة ما بعد القذافي كانت كارثية ويتم دفع ثمنها الآن.
قبل مواجهات الأسابيع الأخيرة التي تراجعت فيها قوات الجيش الليبي في منطقة الغرب، تأكد الاستعصاء العسكري والسياسي وفضّل المبعوث الدولي السابق غسان سلامة الرحيل بعد استنتاجه عدم احترام مقررات مؤتمر برلين وعدم وجود بوادر الوصول إلى تسوية من طرفي النزاع الرئيسيين في الداخل وكذلك بين اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين يتنازعون لمصالح نفعية الكعكة الليبية المتبخرة على مر السنين الأخيرة، مع الإشارة إلى أن الموقع الجيوسياسي لهذا البلد على شاطئ المتوسط وبين شمال أفريقيا والشرق الأوسط يعطي للتجاذب حوله طابع صراع بالوكالة بامتياز في زمن التخبط الاستراتيجي. ومن دون شك أن الشروخ الكبيرة في ليبيا العملاق شمال أفريقي (من ناحية المساحة والثروات) المنقسم بين طرابلس وبرقة، يمكن إذا استمر التصعيد في التسبب بحريق إقليمي مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، كما هو الحال في الأزمة السورية. أمام الانقسام والعجز الأوروبي، والضوء البرتقالي الذي منحته واشنطن للتدخل التركي من أجل صد النفوذ الروسي، لا يستبعد على مدى متوسط التوصل إلى مشاركة في المصالح الاستراتيجية والاقتصادية، المؤثرة بين روسيا وتركيا، وهما لاعبان رئيسيان حاضران في سوريا، واللذان يحاولان تهميش اللاعبين الدوليين والإقليميين الآخرين المشاركين في هذا الملف المعقد للغاية.
والجدير بالذكر، أنه كانت لدى هذين البلدين استثمارات ضخمة في ليبيا قبل عام 2011 وكانا يعارضان دائمًا تدخل الناتو ضد نظام العقيد معمر القذافي. ويبدو أن كليهما اليوم مصمم على إبقاء مصالحه في مكانها بالفعل، وقبل كل شيء يسعى لزيادة نفوذه السياسي والعسكري.
وفي هذا الإطار تجمع تركيا رجب طيب أردوغان بين النزعة السلطوية في الداخل والحنين التوسعي الإمبراطوري. ويقلد الرئيس التركي نظيره الروسي لناحية تشريع تدخله بناء على اتفاقية أمنية مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل المجتمع الدولي. لكنه يستند إلى المجموعات الإسلامية وعلى الكراغلة (“أحفاد الأتراك” الذين قدّر أردوغان عددهم بمليون شخص؟) وحسب مصدر أوروبي “تنافس أنقرة روما في اللعب على وتر الأقليات غير العربية في ليبيا لتنشيط نفوذها هناك”. من جهتها، يبدو أن روسيا لن تفوّت الفرصة لتجد نفسها على أطراف جنوبي أوروبا. وكما يكشف دبلوماسيون غربيون من خشية أميركية وأوروبية من تمركز روسيا في ليبيا على المدى الطويل، الأمر الذي سيعيق المصالح الغربية في أفريقيا ويثير مخاوف أمنية لدول جنوب أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوجود الروسي الدائم في شرق ليبيا يعني بالتأكيد الأميركيين، الذين حسب مصدر ليبي مطلع “سعوا إلى الحصول على قاعدة عسكرية في ليبيا خلال فترة القذافي، والتي لم يحصلوا عليها”. ولذا يخشى هذا المصدر من سيطرة الأتراك على قاعدة الوطية في الغرب واحتمال تقديمهم إغراء للأميركان بتحويلها إلى قاعدة لحلف الناتو الذي لم يتردد أمينه العام في تكرار معزوفة دعم السراج قبل تحول الوضع العسكري في غرب طرابلس.
وما يمكن أن يزيد الموقف تعقيداً ما أشارت إليه التسريبات منذ يناير الماضي بخصوص “اتفاق بين موسكو وأنقرة للتشارك في تقاسم ليبيا الغنية بالطاقة” وربما هذا كان السبب الرئيسي وراء تغيير في الموقف الأميركي لصالح حكومة فايز السراج. أما فرنسا المعزولة حاليا في غرب ليبيا وغير المنخرطة تماماً بدعم المشير خليفة حفتر، فقد بررت من قبل تعاونها معه لمكافحة الإرهاب وأمن الساحل (قواتها في مالي منذ 2013) ودول الجوار. ومن هنا تعزيزها الشراكة الاستراتيجية مع مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة اللتين تدعمان الجيش الوطني الليبي، وإعادة إحياء علاقتها التاريخية مع تونس حتى “لا تقع في الحضن التركي” كما يقول سفير فرنسي سابق. وتواجه فرنسا مشكلة دائمة مع الجزائر التي تعارض تلقائيا كل دور فرنسي في الإقليم وموقفها كان في الأساس ضد التدخل الغربي في ليبيا. وما يقلق الاتحاد الأوروبي في بروكسل هو استخدام تركيا للورقة الليبية من أجل التفاوض من موقع قوي مع الأوروبيين.
ويلاحظ أحد موظفي المفوضية الأوروبية ملامح تغيير في الموقف الإيطالي لأن روما أخذت تنظر بحذر إلى التمركز التركي في مناطق غرب ليبيا مسرح نفوذها التقليدي. وتبقى نقطة الضعف الأوروبية متمثلة في موقف برلين الحريصة دوما على علاقتها مع تركيا أياً كانت طموحات أردوغان.
لم يعد ينفع دق جرس الإنذار إزاء “برميل البارود الليبي” لأنّ مجلس الأمن الدولي لم يتمكن بكل بساطة من فرض تطبيق قرار 2011 بحظر توريد الأسلحة، ولم ينجح كل مندوبيه بسبب حدة الانقسام الدولي. ومن دون الحديث عن كل مشعلي الحريق الليبي تبدو خلاصة الفشل الأوروبي – الفرنسي حاسمة مع احتمال بلورة “أستانة” ليبية بين روسيا وتركيا على غرار شمال سوريا. ولذلك من دون مسارعة فرنسا للتشديد على الحل السياسي وعلى الحد الأدنى.