نادرا ما وصل العداء بين رئيسين أميركي وصيني كما يحصل بين ترامب وشي، ولذا يصح التساؤل إلى أي مدى ستذهب المواجهة الأيديولوجية والاقتصادية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين؟
تتراكم في السنوات الأخيرة ملفات التجاذب ما بين القوتين العالميتين البارزتين منذ ما قبل زمن كورونا، وازداد وقع الصراع مع الإدارة الأميركية الحالية لأن دونالد ترامب كان أول زعيم أميركي وغربي يشهر العداء بشكل مباشر ضد الصين في ما بعد ماو، ولأن شي جين بينغ قام بتغيير نهج الصين، ثاني اقتصاد في العالم، متحديا الغلبة الأميركية في نظام دولي متخبط. تغيرت الحقب والأدوار منذ انفتاح ريتشارد نيكسون (بصحبة هنري كيسنجر على الصين) حيث كان هناك رهان أميركي على أن التطور المستمر للتجارة مع الصين، سيؤدي بلا شك إلى شكل من أشكال التحرير السياسي للنظام في بكين. وهكذا تصور تلامذة جيفرسون أن ازدهار العلاقات الاقتصادية مع آخر أكبر الأنظمة الشيوعية في العالم وإثراء الطبقة الوسطى الصينية سيؤدي تلقائيا إلى تطور النظام. ولذا لم يكن هناك من رد فعل كبير بعد سحق الحركة المؤيدة للديمقراطية في ميدان تيان آن مين في 1989 (في موازاة قرب نهاية الاتحاد السوفييتي) حيث تمسك الحزبان الديمقراطي والجمهوري بنفس الأسس التجارية والتحليل الإيديولوجي لتطور العلاقة مع التنين الصيني.
لكن الحسابات والرهانات الأميركية كانت خاطئة إذ أن الصين المتسلحة بمقومات “القوة الناعمة” (السوفت باور) انتقلت اعتبارا من العام 2008 من القوة الصامتة إلى القوة المؤثرة. ومع النمو الاقتصادي والتغلغل في قلب السوق الأميركية والتحول عمليا إلى “مصنع العالم” استفاد النظام الشيوعي من حسنات العولمة الرأسمالية من دون التأقلم مع أيديولوجيتها، بل تميزت مرحلة شين جين بينغ بتشدد ملحوظ وتصميم على تحجيم الدور القيادي الأميركي، بالتزامن مع استكمال إعادة تكوين السلطة بشكل إمبراطوري كما تشهد العروض التاريخية للجيوش الصينية والانخراط في سباق التسلح وتطوير القوتين البحرية والفضائية و”طريق الحرير الجديدة” والتوسع الاقتصادي حول العالم والسعي للهيمنة في الجوار المباشر. والأهم انغماس الحزب الشيوعي في إخضاع البلاد لرئيس على مدى الحياة.
وهكذا تم تلقيح الماركسية اللينينية بوصفة ماوية وصلصة شي جين بينغ من خلال الثورة الرقمية لإحكام المراقبة (كما تصور يوما جورج أورويل في كتابه الشهير 1984) مما يزيل كل أشكال المعارضة بالرغم من ثغرات توزيع الثورة والفوارق بين الريف والمدن ومشاكل المكونات الأقلية.
وثبت أن التحرر الاقتصادي لا ينتج عنه حكم تحرر سياسي، بل إننا أمام المزيد من السلطوية استنادا إلى التقاليد الصينية العتيقة ومنع أي انتقاد خارجي عبر التسلح بقوة الضرب الاقتصادية، ولأن الغرب بالرغم من تبايناته لا يعترف عمليا بوصول الصين إلى مرتبة القوة العظمى.
أدرك باراك أوباما مدى التقدم الصيني ومن هنا كانت نظريته حول “الاستدارة الأميركية نحو آسيا والمحيط الهادئ” وذلك لمواجهة الصين مع رهان على دعم حلفائه الأوروبيين، لكنه لم يذهب بعيدا وبقي في طور التخطيط.
وعلى العكس وتحت شعار “أميركا أولا” بدأ دونالد ترامب حربه التجارية واختبار القوة مع شين جين بينغ، مع الوعيد بتصعيد كل ذلك في حال إعادة انتخابه. لكن في المقابل يؤمن بينغ بتفوق “النموذج الصيني” وإنجازاته الاستثنائية وتشكيل المشهد الاقتصادي المستقبلي عالميا تماما كما فعلت الولايات المتحدة بعد عام 1945، استنادا إلى ثقلها الاقتصادي وطفرتها التكنولوجية لتشكيل عالم أقرب ما يمكن لمصالحها، مع الحفاظ على طريقة حكمها وتشويه سمعة النظام الديمقراطي الكلاسيكي الليبرالي السائد. وهكذا مقابل التبشيرية الأميركية الديمقراطية (النفعية الليبرالية) تقوم الدعاية الصينية على القناعة الأيديولوجية والتركيز على النموذج الاقتصادي الجديد.
ولذا تحاول الصين احتواء الهجمة الإعلامية الأميركية والاكتفاء عند الرد على تهديد ترامب حول قطع الصلات الدبلوماسية بالقول إن “استقرار العلاقات في صالح البلدين”. لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك إذ أن جائحة كوفيد – 19 وعواقبها الاقتصادية جاءت لتنضم إلى لائحة الاتهام التي سطرتها الولايات المتحدة ضد القادة الصينيين: عدم قبول منهجي لقواعد المنافسة التجارية. “القرصنة الرقمية الصناعية والتكنولوجية”؛ رفض المعاملة بالمثل في العديد من المعاملات الاقتصادية؛ استخدام القوة في بحر الصين الجنوبي؛ الاختلاف حول تايوان وخلافات أخرى من كوريا الشمالية إلى إيران.
وأخيرا لفت النظر إلى أنه خلال زيارة مايك بومبيو إلى إسرائيل، حذرت واشنطن حليفتها من تطوير علاقتها مع الصين. وعلى الطرف الآخر، وضعت الصين مضبطة اتهامها للولايات المتحدة و”نهجها العدواني والتوسعي التاريخي” من حقبة حروبها في الهند الصينية إلى تمددها العالمي الحالي ومضاعفاته، وتسخيرها النظام الاقتصادي العالمي لصالح ديمومة هيمنتها.
يخفي الجدل الحالي حول منشأ فايروس كورونا المستجد (مختبر ووهان كما يقول بومبيو أو مختبرات الجيوش الأميركية كما تقول مصادر صينية) احتدام معركتي التفوق الاقتصادي والتكنولوجي، وهنا يصبح السبق في اكتشاف لقاح الفايروس التاجي أهمية جيوسياسية لدى الأميركيين والصينيين والأوروبيين واليابانيين والروس وكل المنخرطين في هذا السباق.
ومما لا شك فيه أن تحول الولايات المتحدة إلى البؤرة الأولى لانتشار وباء كوفيد – 19 وأول بلد في عدد الضحايا، يجعل من مسألة العلاقة مع الصين أحد أبرز محاور الحملة الانتخابية الرئاسية ويؤجج ترامب تسخين العلاقات الصينية الأميركية. وسيكون التحدي الكبير أمام واشنطن (خاصة في حال إعادة انتخاب ترامب) الذهاب نحو محاولة “فصل” الاقتصاد الأميركي عن الاقتصاد الصيني مع ما يعنيه ذلك من إبعاد الشركات الصينية من “وول ستريت” وتقنين علاقات وادي السيليكون مع “التكنولوجيا العالية” الصينية، والحد من استثمارات الصين في رأسمال صناديق المعاشات التقاعدية العامة الاتحادية.
على أبواب الانتخابات الأميركية، ستحتدم المواجهة مع الصين وسيصعب ضبطها أو ترتيب صفقات تبادلية خاصة وأن دونالد ترامب وشي جين بينغ لا يعتزمان التنازل في المدى المنظور، ولا يستبعد الذهاب إلى الأسوأ في حال عدم التوصل إلى تفاهمات ما بعد زمن كورونا.