يكثر الحديث في المنطقة العربية، بعد تفجر الثورات المتزامنة في عدد من الدول العربية، عن “تجديد العقد الاجتماعي”. فنجد منها من يعدد شروط العقد الذي يرسي أنظمة ديمقراطية، فيؤكد على الحرية والعدالة والإنصاف والحق في المشاركة في صياغة أطر الحياة السياسية والمجتمعية؛ من أجل تفاهم بين المواطن والدولة على الأهداف العليا للوطن، يعيد النظر في دور الدولة على أساس هذه الأهداف.
ونجد في لبنان أيضا من يرفع شعار العقد الاجتماعي الجديد هذا. مسوغهم في هذا ما أوصلتنا إليه الحكومات المتعاقبة من فشل موصوف ومفضوح حتى للعالم الخارجي. من بعض نتائجه التردي الخطير على المستوى الاقتصادي ـ المالي من جهة، إلى حد إعلان إفلاس الدولة؛ إضافة إلى الفساد المستشري في كافة مرافق الدولة والناتج عن المحاصصة والزبائنية والطائفية، بعد أن تم تعطيل آليات الحكم الديمقراطي عبر القفز فوق الدستور والقوانين. ما يجعل البعض يقفز إلى الاستنتاج المتسرع بأن “زمن الطائف انتهى”. ومن هنا طرح مقولة الجمهورية الثالثة.
هل انتهى زمن الطائف حقا؟
دعونا نراجع أين كنا وكيف وصلنا إلى هنا.
ضمّت الدولة اللبنانية عند نشوئها في العام 1920 مناطق وجماعات متعددة ذات انتماءات دينية وسياسية مختلفة.
قامت الهوية الوطنية لهذه الدولة الوليدة على “صيغة تعاقدية” هدفها العمل على تسوية المتناقضات وما قد يفرق بين مختلف الجماعات، وكل ما يمكن أن يتعارض مع العمل بتلك الصيغة التعاقدية بين مجموعاتها الطائفية المتنوعة.
من هنا كانت القوانين والأعراف التي وضعت في بدايات تأسيس لبنان والمتعلقة بالطائفية السياسية منذ تطبيقها كتعبير عن البحث عن نوع معين من المساواة. وذلك كنتيجة لتقاطع الإصلاح العثماني والتدخل الغربي والفاعلية المحلية.
قامت فلسفة الصيغة اللبنانية إذن على تجمع الأقليات وإشراكها في نموذج مبتكر غير موجود في أي بلد آخر. وقد أعطيت مضمونا فلسفيا وقانونيا سُمّي فيما بعد “الميثاق الوطني”، ضمن صيغة “لا شرق ولا غرب”. أي يتخلى المسيحيون عن المطالبة بالانضمام إلى فرنسا ويتخلى المسلمون عن المطالبة بالانضمام إلى سوريا الكبرى.
وتعريف النظام اللبناني كما يصيغه أنطوان مسرة: “الإدارة الديمقراطية للتعددية السياسية، إضافة إلى التعددية الثقافية والاجتماعية، بالمعنى الديمقراطي العام”١.
اتسم النظام السياسي اللبناني بالطابع الديمقراطي منذ انطلاقه بسبب هذه الركيزة الأساسية من التعددية ونظامه البرلماني. إضافة إلى مبدأ الحريات، الشخصية منها والعامة، وحرية المعتقد والرأي والتعبير. والسعي الدائم لحفظ العيش المشترك بين مكوناته الدينية.
يعد لبنان، بهذا المعنى، نموذجا فريدا في المنطقة، والدستور اللبناني، كما بيّنا، من أوائل الدساتير في المنطقة ومن أفضلها، لجهة حفظ التوازن التعددي من منطلق عقد اجتماعي، يحتاج إلى تعديل وإصلاحات، في زمن هادئ ومستقر، وليس في زمن خضوعه لإرادة خارجية مهيمنة بالسلاح.
بينما مطلب الجماهير الأساسي والمحق في الدول العربية، دستور ديمقراطي تعددي وعقد اجتماعي جديد بين المواطن والدولة.
ولا أجد شبهاً بين الوضعين، اللبناني والعربي.
المشكلة في لبنان، كما صاغها البعض، أن الطبقة السياسية حولته من نظام ديمقراطي برلماني تعددي إلى “نظام طائفي عميل”، بمعنى أن ولاءات نخب الطوائف تذهب مباشرة إلى الخارج، أي إلى دول خارجية وأولياء أمر خارجيين؛ أحيانا بشكل محتشم وعلى شكل ولاء سياسي، وأحيانا بشكل فج ومفضوح وبواسطة القوة.
وقد لجأت هذه النخب إلى افتعال النزاع الطائفي ـ السياسي دوريا كوسيلة للحكم والتحكم بمصير الشعب اللبناني. فتم تعطيل الدولة بما يقرب السبع سنوات كي يتاح للسلاح العميل وضع اليد على الدولة ومؤسساتها.
وفي هذه الأثناء تحول النظام التعددي المشار إليه إلى نظام توافقي يخضع للفيتو الذي لا يستطيع استخدامه إلا طرف واحد، القوي والممتلك للسلاح. وصار يُمنع انتخاب الرئيس أو اجتماع البرلمان أو تكليف رئيس حكومة، إلا بموافقة “حزب الله”. وهذا انتهاك موصوف للنظام اللبناني والدستور والقوانين.
وتم حشو أجهزة الدولة ومؤسساتها بأكبر جيش من موظفي القطاع العام، غير مضبوطي العدد، لضمان حسن سير آليات الزبائنية والاستتباع وتمرير انتخابات صورية بقانون هجين مفصّل على قياس “الشركة المساهمة” الحاكمة لتحوز على أغلبية ضامنة، مع إضعاف الشركاء، خاصة “السُنَّة”. ما ضغط على الشارع السني وحوله إلى الوريث الشرعي للشعور “بالمظلومية والحرمان” المشهور.
المشكلة في لبنان إذاً، أن من هم في السلطة أخلّوا بالعقد الاجتماعي ولم يطبقوا اتفاق الطائف أصلا كي يعلنوا انتهاء صلاحيته. الثورة قامت لعجز السلطة عن تقديم الخدمات الأساسية والبديهية. وأصبحت مطالب الثورة هي المعيار الذي تقاس عليه سلامة السياسات. وتتعلق بتأمين المشاركة السياسية والتمثيل الصحيح والشفافية والمحاسبة وكرامة العيش في دولة تؤمن الخدمات العامة لجميع المواطنين.
الإشكالية المطروحة اليوم أمامنا هي: هل نعيد النظر بالعقد الاجتماعي الموجود أو نطرح عقدا اجتماعيا جديدا وما هي ملامحه؟ أم أن المشكلة بالممارسة ومخالفة أحكام الدستور تحت تأثير الفساد الملتحف بالعوامل الإقليمية؟
يشير أندريه سليمان٢ أن الهدف من العقد الاجتماعي هو تأمين الحماية، لجميع المواطنين، وتوفير الخدمات والمشاركة (PPP). ويُعترف بشرعية الدولة إذا تحققت هذه المبادئ الثلاثة. لكن هذه المبادئ لا تطبق في الدولة الهشة.
بالنسبة إلى الحماية، تحتكر الدولة بالمطلق العنف وتحمي من الإرهاب والتعدي على الملكية والسلامة الخاصة؛ وتفرض سيادة القانون عبر إنفاذ القوانين وصون الحريات الأساسية وحقوق الإنسان. ومن نافل القول إن هذه الشروط لا تطبق في لبنان.
بالنسبة للمبدأ الثاني، أي توفير الخدمات العامة والوصول العادل إلى الموارد وتوفير البنى التحتية والخدمات الاجتماعية كالتربية والصحة والرعاية الاجتماعية، فهي أيضا غير متوفرة في لبنان.
أما المشاركة بعدالة بعملية صناعة القرار فتبدأ بعدالة التمثيل عبر المشاركة في الانتخابات وآليات تشاركية أخرى. وهي أيضا غير متوفرة في لبنان.
في كل الدول يوجد مجموعات متعددة كما يوجد عقد اجتماعي يؤمن إضافة إلى التوافق العمودي توافقا أفقيا. فعلى جميع مكونات المجتمع أن تعي عدم إمكانية أي مكون من الحصول على كل ما يريده، وبالتالي؛ ينبغي العمل على إيجاد صيغة ترضي الجميع.
في لبنان مشكلة العقد الاجتماعي، كما أصبح يمارس مؤخرا، أنه جعل بين زعماء طوائف ينوبون عن أفرادها، وأي أنه ليس قائما بين مواطنين أحرار.
أي أفق بعد ثورة 17 أكتوبر؟
يعطي “العقد الاجتماعي” عادة شرعية سلطة الدولة على الأفراد. وتعتبر نظرية “العقد الاجتماعي” بالتحديد أن الأفراد يقبلون ضمنا أو صراحة أن يتخلوا عن بعض حرياتهم ويخضعوا لسلطة الحاكم (أو لقرار الأغلبية) مقابل حماية بقية حقوقهم. ومن هذا المنظار يمكن محاسبة السلطة القائمة في لبنان ومدى شرعيتها التي فرّطت بحقوق المواطنين.
يعتبر “توماس هوبس” أنه في غياب القانون والنظام السياسي، ستغدو لدى الجميع حريات طبيعية لا حد لها، بما في ذلك حق الوصول إلى كل شيء. في لبنان تمكنت الطبقة السياسية المهيمنة من تكريس ممارسات غير خاضعة لسلطة الدستور أو القانون؛ فأصبح بإمكان هذه الفئة حصرا ممارسة الحريات الفالتة التي قصدها “هوبس”. فانفلت الفساد على غاربه متفلتا من أي رقابة ومحاسبة.
الآن، هناك حاجة إلى إعادة تصويب العقد الاجتماعي في لبنان. لقد استدرج المواطن كي يتنازل عن حقوقه ويتحول إلى زبون وتابع وأُخضع للسلطة المطلقة لرؤساء الطوائف والميليشيات المتعاونة ضد مصالحه وحقوقه.
وبما أن الحكومة، بحسب “هوبس”، ليست طرفاً في العقد الأصلي، فالمواطنون ليسوا ملزمين بالخضوع للحكومة عندما تكون أضعف من أن تتصرف بحزم لتمنع التحزب والاضطراب المدني.
ووفقا لمنظّرين آخرين حول العقد الاجتماعي، أنه في حال فشل الحكومة في تأمين الحقوق الاجتماعية (كما عند “جون لوك“)، أو فشلها في تلبية أهم اهتمامات المجتمع (ما يسميه جان جاك روسو “الإرادة العامة”)، يمكن للمواطنين حينها أن يمتنعوا عن طاعة الحكومة، أو أن يغيّروا القيادة عبر انتخابات أو عبر وسائل أخرى.
وهذا ما تهدف إلى تحقيقه ثورة 17 تشرين عندما تنتهي جائحة كورونا.
١. أنطوان نصري مسرة: النظرية الحقوقية في الأنظمة البرلمانية التعددية، بيروت، المكتبة الشرقية، 2017.
٢. المسألة الاجتماعية في زمن التقشف: الجمعة، 28 فبراير 2020\فندق لانكستر بلازا – بيروت