يوجد الاتحاد الأوروبي على المحك في زمن كورونا. ومن شروط ديمومته وإعادة صياغته أن تكون أوروبا وفية لجذورها التاريخية.
مرت على أوروبا عبر تاريخها العديد من المحن والحروب. ولم تكن ” القارة القديمة” فقط موئل الاستعمار ونماذج الهيمنة بل كانت كذلك بؤرة التنوير والنهضة والثورتين الفرنسية والصناعية. بيد أنه بعد سبعة عقود على السلام والاستقرار، أتى زمن كورونا ليكشف الخلل الكبير في الاتحاد الأوروبي الذي أظهر هشاشته وانقساماته في مواجهة الكارثة الصحية.
وكما بدت روما وبرلين وباريس ولندن كأنها مدن “خاوية على عروشها”، لم تكن الماكينة البيروقراطية للاتحاد الأوروبي في بروكسيل على مستوى جسامة الحدث، ولم يبرز استعداد ألمانيا الدولة الاقتصادية الأقوى في أوروبا للتضامن كفاية مع إيطاليا وإسبانيا الدولتين الأكثر معاناة.
وفي نفس المسار الأناني، تعقد الانقسامات التوصل لاتفاق حول خطة استنهاض اقتصادي يتم فيها تقاسم الأعباء في مواجهة الكساد المنتظر. ومن هنا يضاف إلى الأزمة البنيوية التي تضرب البيت الأوروبي المشترك خطر وجودي إذا لم يتم الاستدراك في الوقت المناسب وحينها يفقد الاتحاد مبررات البقاء ويقود ذلك إلى سيناريوهات أكثرها إيجابية إعادة الصياغة من أجل تفادي التفكيك أو انفراط العقد ونهاية المغامرة الأوروبية.
يجدر التذكير بأن الاتحاد الأوروبي شهد بعد الأزمة النقدية العالمية أوضاعا مماثلة من الانقسامات. بعد التماسك والتضامن مع الولايات المتحدة لإنقاذ الاقتصاد العالمي والأسواق في خريف العام 2008. لكن التباعد أخذ يبرز مع اهتزاز دول في جنوب أوروبا وخاصة اليونان، وحينها حصلت في 2010 أزمة كبرى للديون في منطقة اليورو (دول الاتحاد المعتمدة للعملة الأوروبية المشتركة) وأبدت دول من شمال أوروبا تحفظها إزاء كلفة إنقاذ اليونان، لكن الضغط الفرنسي أثمر مرونة ألمانية أسهمت في صياغة خطة طموحة من أجل اليونان ومنطقة اليورو.
لكن ذلك لم يحجب أزمة هوية وأزمة بنيوية في البناء الأوروبي سرعان ما فجرتها أزمة اللجوء الكبرى في 2015 وما رافقها من صعود شعبوي والتصويت البريطاني لصالح البريكست مما شكل منعطفا وضع الاتحاد ومؤسساته على المحك.
وبالرغم من أن المؤسسة الأوروبية تعاملت بتماسك مع خروج لندن، لكن الأزمة الكامنة والمؤجلة تعززت مع فشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ 2017 في إقناع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمشروع استنهاض لاتحاد أخذت تصيبه سهام إدارة دونالد ترامب ونيران الكرملين في آن معا. وهكذا تأكد مع الوقت الكسوف الأوروبي على المسرح الدولي في موازاة بروز الثلاثي الأميركي – الصيني – الروسي في حقبة من التخبط الإستراتيجي على صعيد الأداء والمفاهيم والانعكاسات.
ضمن هذا السياق، بدأ زمن كورونا يجتاح القارة القديمة ويذكّر سكانها بحقب سابقة تخللتها أوبئة مدمرة أبرزها الطاعون والأنفلونزا الإسبانية منذ قرن من الزمن. وكانت المفاجأة السيئة بسوء إدارة الأزمة وعدم وجود البنية الصحية التحتية الضرورية ، مما هشم صورة بعض الدول والاتحاد مع التساؤل عن إخفاق القطب التجاري والاقتصادي البارز في تطوير إستراتيجية مواجهة الكوارث وسياسات صحية ووقائية وغياب السيادة الاقتصادية بالإضافة إلى الانكشاف الإستراتيجي أمام مظلة الحماية الأميركية.
من هنا كان افتقاد الاتحاد ودوله الغنية في المقام الأول لموجبات التضامن مع إيطاليا في المقام الأول وقيام الصين وكوبا وروسيا بمبادرات تضامنية ودعائية مما زاد من الهوة بين الرأي العام الإيطالي والفكرة الأوروبية. ووصل الأمر إلى التغطية على التقصير الأولي الفاضح، قيام رئيسة المفوضية الأوروبية بتوجيه رسالة اعتذار إلى الإيطاليات والإيطاليين ومطالبة رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي بأن يكون الاتحاد الأوروبي من الآن وصاعداً أكثر “طموحا ووحدة وشجاعة”. وعلى نفس المنوال طالب الرئيس ماكرون مرارا الاتحاد بتطوير خطط تضامن عاجل ونتيجة هذا التحرّك كشفت كريستين لاغارد حاكمة المصرف المركزي الأوروبي عن حزمة إجراءات وقروض وخطة طوارئ تصل إلى حوالي 750 مليار يورو، مع عدم احترام سقف 3 في المئة لعجز الميزانيات الوطنية.
ونظرا لاستمرار رفض هولندا وتحفظ ألمانيا اعتماد برنامج متكامل للتعافي بعد أزمة كورونا، سيتم التعويل على “الآلية الأوروبية للاستقرار المالي” وهي كناية عن صندوق خاص لدعم الاقتصاديات المتعثرة ضمن منطقة اليورو.
هكذا مقابل النظرة النيوليبرالية والنظرة الأرثوذكسية النقدية اللتين تعتبران الاتحاد الأوروبي مجرد سوق تجاري مفتوح ونفعي، أخذت تزداد المخاوف من انهيار كل مكاسب البناء الأوروبي. وصدر الإنذار الأبرز من الرئيس الأسبق للمفوضية الأوروبية الفرنسي جاك دولور (94 عاما) الذي خرج عن صمته وحذّر من مخاطر الشرخ بين الجنوب والشمال في أوروبا ومن ” الخطر المميت” الذي يحيق بالاتحاد في حال لم تهب كل الدول المعنية لإبراز تضامنها.
وتخشى الكثير من الأوساط الحريصة على ديمومة المشروع الأوروبي من محاذير “فايروس الفتنة والتفكك” الذي ظهر لدى اجتماع القمة الافتراضي في 26 مارس الماضي، مما أعاد إلى الأذهان المناقشات الصعبة والعقيمة إبان فترة 2010 – 2012 وعدم الاستفادة من دروس إدارة الأزمات حيث إن إصرار البعض الميسور على مقايضة المساعدة بتعديل الأنظمة الاجتماعية والصحية ضرب القطاع العام وإمكانيات الدول الوطنية.
لكن بالرغم من الإخفاق حتى الآن في توفير الإجماع على خطة إنقاذ طموحة، تعول المفوضية الأوروبية في بروكسيل على اعتماد خطة طموحة لإعادة إطلاق الدورة الاقتصادية في مواجهة الركود الذي يرتسم في الأفق ويمس كل البلدان معا.
يوجد الاتحاد الأوروبي على المحك في زمن كورونا. ومن شروط ديمومته وإعادة صياغته أن تكون أوروبا وفية لجذورها التاريخية وتبرهن على تضامنها الإنساني فوق كل اعتبار اقتصادي أو نقدي. وإذا كان العكس سيصعب عليها النهوض كما تعودت سابقا. وفي مطلق الأحوال يحبذ تشابك الاقتصاديات في منطقة اليورو وأهمية الوجود ضمن التوازنات الجيوسياسية من أجل إعادة صياغة للمشروع تضمن السيادة الاقتصادية الأوروبية إلى جانب السيادة الوطنية وفقا للدروس المستخلصة من الأزمة الصحية. لا مناص إذًا من وضع الأنانيات الوطنية جانبا والدفع باتجاه تضامن ملموس في الأوقات العصيبة قبل انهيار الهيكل البيروقراطي وانفراط العقد الأوروبي.