العالم التعددي المرتسم أمامنا وحاجات الأسواق العالمية هي التي ستحدد بوصلة الاتجاهات في السوق النفطية.
ارتفعت أسعار النفط الخام، في 20 مارس، لليوم الثاني على التوالي، بعد تراجع حاد هذا الأسبوع. وجرى تداول مزيج “برنت” عند مستوى 30.12 دولار للبرميل. وحسب الخبراء، يعتبر هذا الارتفاع نوعا من التصحيح للأسعار خاصة بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه سيلعب في الوقت دور الوسيط في “الصراع بين روسيا والسعودية” في السوق النفطية، ورد الكرملين السلبي على الاقتراح الأميركي مع نفيه وجود حرب أسعار مع الرياض!
بيد أن عدم التوافق على حصص الإنتاج وانعكاسات أزمة كورونا على مجمل الاقتصاد العالمي لا تسمح بإزالة المخاوف من انهيار في السوق النفطية لأن الأسعار لم تشهد هذا التراجع منذ حرب الخليج الأولى، ولأنه من الصعب كبح زيادة الإنتاج قبل اجتماعات “أوبك بلس” في يونيو القادم.
وحرب الأسعار وحصص النفط الدائرة حاليا ليست الأولى من نوعها منذ سبعينات القرن الماضي، لكن تفاقمها يرتبط باندلاعها على خلفية أزمة كورونا والتنافس الحاد بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والمملكة العربية السعودية على صدارة الإنتاج وتسيير دفة العرض والطلب. ومما لا شك فيه أن مكاسب هذه الحرب وخسائرها سيكون لها أبعادها الجيوسياسية وأثرها على توازنات إعادة تشكيل النظام الدولي.
تسبّبت جائحة “كوفيد-19” في تباطؤ الاقتصاد الصيني في بدايات هذا العام، لكن منذ أوائل مارس تأثر كل الاقتصاد العالمي إلى حد الخشية من كساد يشبه ما حصل في العام 2009. وهكذا في العام 2020 لا بد من تذكر نبوءة نابليون بونابرت “عندما تستيقظ الصين سيهتز العالم” ولو أنها تحققت على طريقة “عندما تهتز الصين يرتعد العالم”.
وهذا يطال السوق النفطية لأن هذا البلد هو “مصنع العالم” ويستهلك لوحده 14 مليون برميل من النفط الخام يوميا وتشير الإحصاءات إلى استيعابها 13 في المئة من إنتاج النفط العالمي. وهكذا سرعت أزمة كورونا من معركة النفط الجديدة التي كانت مؤجلة بين عمالقة الإنتاج للحفاظ على حصصهم السوقية ودورهم الريادي.
بدأت الإرهاصات خلال اجتماعات أوبك وأوبك بلس في ديسمبر الماضي في فيينا، وحينها تمكنت بعض الدول بقيادة روسيا من انتزاع قرار بالاستمرار في تخفيض الإنتاج وفقا لاتفاق 2016 لمدة ثلاثة أشهر فقط، وبما أن الاجتماعات الدورية لا تعقد إلا كل ستة أشهر، فرض هذا الوضع المؤقت عقد اجتماع استثنائي في مارس 2020.
ومن المفارقات والمتغيرات، أنه بينما كان ينتظر الجانب السعودي هذا الاجتماع لتقييم وضع السوق واتخاذ القرارات الضامنة للسعر المناسب زيادة أو تخفيضا في الإنتاج، قلَبَ دخول فايروس كورونا على الخط وتداعياته الاقتصادية الأمور رأسا على عقب.
لذا خرجت اللجنة الفنّية المشتركة التابعة لأوبك بلس بتوصيتين: الأولى تمديد اتّفاق ديسمبر 2019 إلى نهاية 2020، والثانية خفض الإنتاج إلى يونيو بمقدار 600 ألف برميل يوميا. وتأتي التوصيات متطابقة مع الوقائع إذ تقدر وكالة الطاقة الدولية أن الطلب العالمي في الربع الأول من عام 2020 يمكن أن ينخفض بمقدار 2.5 مليون برميل يوميا، ولأن ثمة تقرير مشترك لهذه الوكالة ومنظمة أوبك يشير إلى أن انخفاض سعر البرميل تحت سقف 30 دولارا لعدة أشهر سيؤدي إلى خسارة الدول النامية المنتجة للنفط بين 55 في المئة و80 في المئة من عائداتها من النفط والغاز هذا العام.
مع كل العواقب الاقتصادية والاجتماعية التي ستتبع ذلك ومخاطر زعزعة استقرار عشرات البلدان، لكن كل هذه التقديرات لم يأخذها بالحسبان الجانب الروسي الذي رفض أي خطط جديدة لخفض الإنتاج خاصة ما تقرر في اجتماع 5 مارس حول القيام بتخفيض جديد قدره مليون ونصف مليون برميل يوميا حتى نهاية يونيو، منها مليون برميل يوميا من أوبك، ونصف مليون برميل يوميا من دول خارج أوبك. وجرى استدعاء وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك إلى الكرملين على عجل.
ومن الواضح أن لوبي الصناعات النفطية الروسية بقيادة شركة “روسنفت” عطّل الاتفاق، ولأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجدها فرصة سانحة لتنفيذ وعيده بالانتقام من العقوبات الأميركية ضد خط “السيل الشمالي” الذي ينقل الغاز الروسي نحو أوروبا، وذلك باستهداف صناعة النفط الصخري الأميركي وزيادة المتاعب بين واشنطن والرياض، بالرغم من تحذير الأمير عبدالعزيز بن سلمان، وزير الطاقة السعودي، من “اختراق البيت المشترك” بسبب عدم التوازن بين العرض والطلب في مرحلة التأزم الاقتصادي والتدهور المستمر في الطلب على النفط.
من جهته، برر الجانب الروسي موقفه بالفارق بين نهج الوزير السعودي الحالي وسلفه عبدالعزيز الفالح الذي أبرم اتفاق 2016 مع موسكو.
لكن “التعنت الروسي” في عدم احترام الحصص السوقية، حسب أكثر من خبير، سببه أن روسيا تعتمد كثيرا على مداخيل النفط والغاز في اقتصادها ولأنها تعول على موقعها العالمي ولأن تزايد الإنتاج من خارج أوبك إلى أكثر من أربعين في المئة أفقد الكارتل الأساسي للمصدرين بقيادة الرياض دوره الريادي التاريخي، خاصة مع تطور صناعة النفط الصخري الأميركي منذ العام 2010.
لقد فشلت المفاوضات بالرغم من أن كل الدول الأخرى في “أوبك بلاس” كانت تدعم تخفيضا إضافيا، بينما روسيا لا تريد ذلك. والغريب أنها تمسكت بتمديد الاتفاق من ديسمبر إلى يونيو. ولم تترك الباب مفتوحا للمزيد من المفاوضات، وإعلان نوفاك أن الشركات الروسية ستنتج دون أي قيود ابتداء من أول أبريل، مما شكل أوّل شرارة رسمية لاندلاع حرب الأسعار. إزاء “التصعيد الروسي” أتى الرد السعودي حازما بعد حوالي 15 ساعة: تخفيض الأسعار الرسمية بين 4 و10 دولارات، وزيادة الإنتاج اعتبارا من أبريل إلى 12.8 مليون برميل يوميا.
بالطبع أدى ذلك إلى هزات شبيهة بما حصل خلال الصدمات السابقة وسرعان ما خسرت أسعار النفط حوالي ثلث قيمتها، رافقها انخفاض كبير في أسهم شركات النفط، وخسرت بعض شركات النفط الصخري حوالي 50 في المئة من قيمتها في يوم واحد.
وهذا التحول في الإستراتيجية النفطية السعودية من الصمت والرسائل الدبلوماسية إلى الفعل المعاكس يلبي حسابات المصلحة الوطنية أولا نظرا للتنافس الحاد مع موسكو وواشنطن وتهديد موقع الرياض في أمان سوق الطاقة والحصة السوقية للموطن الأصلي للنفط في الخليج. إذ حاولت واشنطن منذ عهد إدارة باراك أوباما الاعتماد على النفط الصخري للاستغناء عن النفط السعودي وتحجيم دور الرياض. أما عين موسكو، حسب مصادر مستقلة، فكانت منصبة على غزو الأسواق الآسيوية من خلال زيادة إنتاجها وتحطيم الصادرات السعودية إلى الصين والهند وغيرها. لذا أتى رد الفعل السعودي ليذكّر العالم بإمكانات المملكة النفطية، ودورها التاريخي في إمداد العالم بالنفط عندما عجز عن ذلك الآخرون، ومنع أسعار النفط من الارتفاع إلى مستويات عالية تؤثّر سلبا في نموّ اقتصادات الدول المستهلكة، ووقف تدهور أسعار النفط بشكل يضرّ بمنتجيه.
ويذكّر هذا الفعل الدول المستهلكة بأن قيام السعودية وحلفائها بتخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط كان إيجابيا إذ ساعد الدول المستهلكة في وقف هدر المنتجات النفطية الناتج عن الأسعار المنخفضة، وأرشد استخدام الطاقة، وخفف من الآثار البيئية.
لكن الرسالة السعودية الأهم موجهة لبقية المنتجين بأنه لو أصبحت الولايات المتحدة أول منتج للنفط عالميا تليها روسيا، تبرز السعودية ورقة قوتها الحقيقية مع قدراتها الإنتاجية الفائضة وكلفة الاستخراج الرخيصة. ومن هنا، لأن تكلفة النفط الخليجي هي الأقلّ في العالم، وأنه في حالة انهيار كامل للأسعار، فإن خبيرا بارزا في نيويورك يقول “دول الخليج هي الوحيدة التي تستطيع تحمّل هذه الأسعار، وأنه في حالة هبوط كبير في الطلب على النفط، فإن دول الخليج هي الوحيدة التي ستبقى في السوق، وأنه في حالة نضوب النفط حول العالم، فإن النفط الخليجي سيكون آخرها نضوبا”.
من خلال الوضع الجديد، تهدف السعودية إلى إجبار روسيا وكل الدول الأخرى على تخفيض الإنتاج بالشكل المطلوب لتحقيق التوازن في الأسواق. لهذا من الواضح أن الهدف ليس العودة إلى طاولة المفاوضات حالا، وحسب مصدر في لندن تستهدف السعودية حاليا أسواق روسيا النفطية أينما كانت، خاصة سوقها الرئيسية في أوروبا.
ومن المقرر أن تذهب أكثر الشحنات السعودية الإضافية إلى أوروبا أيضا بالرغم من أن التسويق الإعلامي يوحي بتنسيق سعودي – أميركي حول تخفيض الأسعار، لكن الضجة والغضب في قطاع النفط الصخري في تكساس يؤشران على العكس. أما الرئيس دونالد ترامب الذي يرتاح لخفض سعر البنزين وأثره الإيجابي على حملته الانتخابية، لا يود استعداء لوبي النفط الداخلي ويحاول بناء موقف متوازن يسمح له بالاستفادة من خفض الأسعار لملء الاحتياطي الفدرالي من النفط بسعر منخفض واستمرار اختبار القوة الأساسي مع موسكو.
كما الحال منذ عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز والحقبة الذهبية لمنظمة أوبك، تستمر المملكة العربية السعودية بقيادة الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان في السعي للخروج من حرب النفط الجديدة بأقل الخسائر الممكنة على المدى القصير، مع الرهان على مكاسب الحفاظ على الموقع والدور في سباق تنافسي أراده البعض من دون قواعد.
بالرغم من الضغوط الروسية وسعي البعض في الكونغرس لمعاقبة السعودية، تبدو الرياض مطمئنة لخياراتها في هذه المرحلة الدقيقة مما يضمن حقوقها وحقوق حلفائها، مع توجيه رسائل للرئيس دونالد ترامب وللحزب الديمقراطي الأميركي ولكل من يراهن على ابتزازها أو ضرب مصالحها، أن العالم التعددي المرتسم أمامنا وحاجات الأسواق العالمية هي التي ستحدد بوصلة الاتجاهات في السوق النفطية.