تبدو أزمة كورونا كأنها حرب عالمية خفية بعيدا عن نظريات التآمر ودون استخدام أسلحة الدمار الشامل أو التقنيات النوعية.
ضرب وباء كورونا مئة بلد واخترق القارات وعمم الهلع، وهز الاقتصاد العالمي وزاد التخبط في العلاقات الدولية على ضوء احتدام التنافس بين القوى الكبرى وتصدع العولمة في سياق مسعى إعادة تشكيل النظام الدولي. والتاريخ كما العادة ليس نتاج ما نتوقعه، لكنّ حدث العام 2020 ليس حرباً عالمية بالمعنى التقليدي أو عملاً إرهابياً كبيراً أو انهياراً مالياً، بل فايروس مفترس غامض يجتاح القرية الكونية ويدلل على مكامن الضعف فيها وعلى الخلل في نماذج التطور والعولمة والحوكمة.
وتبدو وحدة مصير شعوب العالم في مواجهة هذه الآفة، الخلاصة الأولى الضرورية لمكافحتها ولكنّ ذلك لا يخفي ما برز من نزاعات جديدة وجدل مقلق حول احتمال الحرب البيولوجية، ومن تناقض صارخ بين كل أنواع الانكفاء والانعزال العرقي والديني والقومي من جهة والحاجة الملحة لبلورة عولمة إنسانية وإنقاذية في القرن الحادي والعشرين من جهة أخرى.
تبدو المسارات شائكة لتحقيق النقلة البيئية والعلمية والاقتصادية المطلوبة في ظل زمن الفوضى الاستراتيجية وما يحمله من تضارب بين دعاة السيادة المطلقة للدول والانغلاق وبين إلزامية الحوكمة العالمية في ما يخص المعضلات الحيوية والأزمات الكبرى. ومن هنا ستسرّع التحولات في العام 2020 من تغيير وجه العالم في الكثير من المجالات.
باغت انتشار فايروس كورونا الجديد الجميع من نقطة انطلاقه إلى باقي العالم وأخذ يتحكم بجدول أعمال القرية الكونية، وأحدثت آثاره المباشرة والجانبية اهتزازاً اقتصادياً في الأسواق النقدية وسوق النفط، ووضعت على المحك أنظمة الصحة في العالم وأشكال إدارة الأزمات. واللافت أيضاً أنها شكلت اختباراً للأنظمة السياسية من أوتوقراطية أو ديمقراطية لجهة فعاليتها في الحد من تصاعد الوباء.
لكن قبل استخلاص الدروس حول الانعكاسات على الأنظمة والسياسات، لا بد من التطرق إلى الجدل حول المسؤولية عن نشر الفايروس إثر اتهامات ساقتها إيران والصين ضد ضلوع الولايات المتحدة الأميركية بهجوم بيولوجي مدبّر.
أول من أطلق اتهاماً بهذا الاتجاه كان الجنرال حسين سلامي قائد الحرس الثوري الإيراني ولكن ذلك لم يؤخذ به علميا ويصنف على الأغلب في خانة التبرير ونظريات التآمر. ومنذ البدايات اعتبرت الأوساط الأميركية أن هذه الأزمة هي بمثابة “تشرنوبيل الصين” وصوّبت على مسؤوليات الرئيس شي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني. لكن الرئيس دونالد ترامب الذي يخشى انعكاس ذلك على حملته الانتخابية حاول التقليل من البعد العالمي للآفة، وهذا لم يمنع مستشاره للأمن القومي روبرت أوبراين من التصريح في الحادي عشر من مارس بأن “رد الفعل المتأخر للسلطات الصينية على انتشار الفايروس ربما كلف العالم شهرين من الوقت، قبل البدء باتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاربة الداء”.
واستتبع ذلك في إطار الحرب الكلامية تلميح المتحدث باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان، في الـ12 من مارس، إلى أن الجيش الأميركي ربما يكون وراء انتشار الفايروس في مدينة ووهان الصينية، باعتبارها بؤرة انتشاره الجديدة. والجدير بالذكر أنه عند اتضاح استفحال انتشار كورونا في ووهان، كشف مصدر صيني لمحاور أوروبي عن شكوك صينية بقيام وفد من القوات المسلحة الأميركية بزيارة المدينة وسوق حيواناتها البرية عشية انتشار الفايروس.
لكن الأوساط الأميركية تسخر ممّا تسميه “ترّهات لا أساس لها” ومحاولة هروب إلى الأمام وتبرير التعامل بالكتمان وعدم الشفافية. وعدم تفكيك شيفرة كورونا الجديدة بسهولة سيفتح المجال للتكهنات من دون طائل بدل إعلان “الحلف المقدس” بين الجميع علميا وصحيا واجتماعيا لوضع حد لتفاقم الانتشار. ووصل الأمر لدخول المرشد الإيراني علي خامنئي على الخط وإصدار تعليمات بإنشاء مقر لمكافحة كورونا والوقاية من هجوم بيولوجي، واستدعى ذلك رداً من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حدد فيه أن “أحسن دفاع بيولوجي هو إخبار الشعب الإيراني بحقيقة فايروس ووهان عندما تفشى في إيران قادماً من الصين خاصة بعد استمرار رحلات الطيران ذهاباً وإيابا نحو بؤرة التفشي في الصين” .
ويكشف هذا السجال أنه كلامي وسياسي في المقام الأول وتعتبر أوساط علمية أوروبية أن أطروحة السلاح البيولوجي أو الهجوم البيولوجي واهية ولا تستند إلى أساس علمي أو ميداني، لكن تفكيك أسرار الأوبئة والآفات ليس بالأمر اليسير والدليل أن الإنفلونزا الإسبانية الشهيرة في العام 1920 لم يتم الكشف عن كل مسارها الجيني إلا في العام 2005. ومن هنا يجب أن تكون الأولوية ليس للجدل العقيم وتسجيل النقاط السياسية أو لحرب المختبرات وكبرى شركات الأدوية، بل للتعاون العلمي والاستثمار في الصحة والوقاية وحماية البيئة. وكل هذا لا ينفي خلفية الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين على بلورة النظام العالمي الجديد وموقعهما فيه، ولا ينفي الآثار المدمرة لاستخفاف النظام الإيراني بحياة الشعب كما بحياة شعوب دول الجوار ودول المحور الإيراني عبر تسهيل الحركة البرية والجوية من دون أيّ وازع أخلاقي وقانوني.
يقودنا الاضطراب السائد إلى التساؤل عن مدى تأثر الأنظمة بتفاعلات أزمة كورونا التي كشفت عن مأزق في الأداء الصيني يذكرنا بكتاب جورج أورويل “1984” لأن التقدم العلمي والثورة الرقمية والقوة الاقتصادية لن تكون الوصفات السحرية لاحتلال الصدارة بين القوى العظمى إذا لم تقترن بالشفافية والمساءلة واحترام البيئة وقواعد العلاقات الدولية والحقوق الانسانية .
ينطبق الأمر كذلك على الأداء الشعبوي لإدارة دونالد ترامب وإجراءاتها المتأخرة ومنحها الأولوية للاستحقاق الرئاسي بعد تهشيم حصاد الإدارة السابقة حول التأمينات الصحية. ولا تبدو الديمقراطيات في وضع أفضل لإدارة الأزمات وبدا الاتحاد الأوروبي متعثرا في ردة فعله والتضامن كفاية مع إيطاليا أحد مؤسسيه، ومقابل صمت البعض بالغت أنجيلا ميركل في تقديراتها بينما واجه إيمانويل ماكرون أكبر أزمة صحية عصفت بفرنسا منذ قرن بكفاءة وحزم، وبدأ استخلاص الدروس حول أهمية دور دولة الرعاية وقطاع الصحة كمرفق للخدمة العامة وأولوية التنسيق الأوروبي والتعاون الدولي.
وهذه الانعكاسات على حياة الناس ونمط عيشها عبر الاستفادة من الثورة الرقمية للعمل والدراسة عن بعد، يبدو من المبكر التمحيص بكل الخلاصات. لكن الهزة الاقتصادية التي كانت متوقعة بسبب تصدع العولمة وارتدادات أزمة 2008 المالية، أتى الفايروس الجديد ليزيد من حدتها ولتترافق مع حرب أسعار النفط التي جرى لجمها سابقا في اتفاق 2016 بين روسيا والمملكة العربية السعودية، واندلعت حديثا بسبب إصرار موسكو على الاستمرار في رفع إنتاجها لأن الأولوية للرئيس فلاديمير بوتين هي الرد على صناعة النفط الصخري في تكساس وعلى العقوبات الأميركية المفروضة على خط سيل الغاز الروسي نحو أوروبا.
في هذه الأجواء، يكرس الرئيس بوتين من خلال البرلمان التمديد له بعد 2024، وتستمر المعركة الانتخابية الأميركية وترتسم ما بين جو بايدن ودونالد ترامب، وتستمر الحروب والمآسي بحق الإنسان والبيئة والطبيعة.
هكذا تبدو أزمة كورونا كأنها حرب عالمية خفية بعيدا عن نظريات التآمر ودون استخدام أسلحة الدمار الشامل أو التقنيات النوعية. في العام 2008 تم تفادي أزمة اقتصادية كبرى بسبب التضافر العالمي وقوة الديمقراطيات الأوروبية ووقفتها إلى جانب الولايات المتحدة، والمطلوب اليوم المزيد من الإحساس بالمسؤولية لدرء الكارثتين الصحية والاقتصادية، والتفكير بمستقبل الإنسان والكون خارج مقاييس الربحية وإلغاء الآخر.