يرفض “حزب الله”، حتى الآن، تدخل صندوق النقد الدولي حفاظا على السيادة كما يقول، على الأقل في خطابه العلني. هنا من الضروري الإشارة إلى أن الدول لم تعد تملك سيادتها المطلقة، في عالم جديد أصبحت فيه المنظمات والعمالقة الرقميين أقوى من الدولة الوطنية. إضافة إلى مفهوم “حق التدخّل”، الذي يبيح للمجتمع الدولي انتهاك سيادة دولة ما، لا تحترم حقوق مواطنيها بهدف تقديم المساعدات الإنسانيّة لهم.
نحن أمام تحوّل السيادة كسلطة إلى السيادة كمسؤوليّة؛ أي مسؤولية الدولة في حماية مواطنيها وتأمين رفاهيتهم، ومسؤوليّة المجتمع الدولي في ذلك. وهذا في العصر الرقمي الذي أفقد الحكام السيطرة على المعرفة وتلاعبهم بالعقول. حل القانون والاقتصاد محل السيادة والهوية.
لكن السيادة عند “حزب الله” استنسابية. فوزير الصحة التابع له، وبعد انتقال فيروس كورونا من إيران إلى لبنان، رفض في البداية ثم تلكأ في إيقاف الرحلات من طهران، مرة بذريعة البعد السياسي، ومرة لأنه ينتظر طلب منظمة الصحة العالمية ذلك. هذا يعد تخليا موصوفا عن قرار سيادي من صلاحية الحكومات وحدها. وإذا كانت الحكومة لا تجرؤ على هكذا قرار فعن أي سيادة نتحدث؟
أما رفض صندوق النقد الدولي بذريعة رفض التدويل، فهو أيضا موقف استنسابي ومناسباتي ـ مع الإشارة هنا إلى أن ممثلين عن الحكومة التي تولّى الحزب هندسة تأليفها، التقوا بممثلين عن صندوق النقد، وهو ما يشير إلى ازدواجية في خطاب الحزب، كون الحكومة لا يمكن لها أن تقوم بخطوة كهذه دون موافقة “حزب الله. فبعد أن عارض المحكمة الدولية الخاصة بلبنان نجد أن نصرالله في خطابه الأخير يريد أن يقدم محامون إلى تحضير ملفات قانونية ورفع دعاوى أمام القضاء الدولي “عن مسؤولية أميركا في منطقتنا كي يلاحق ترامب ورامسفيلد وبومبيو واسبر”. وهكذا فالتدويل والسيادة عنده انتقائيان يختارهما عندما يتلاءمان مع مصالحه الخاصة.
لكننا الآن أمام عجز مالي deficit بسبب جميع السياسات الماضية التي بددت فيها الدولة 250 مليار دولار وراكمت دينا عاما يصل إلى ـ وربما يتجاوز ـ 100 مليار دولار.
هذا الواقع يفرض علينا مواجهة الأسئلة التالية:
ـ هل بإمكاننا السيطرة على الوضع الذي وصلنا اليه اعتمادا على مواردنا الخاصة دون مساعدة خارجية يقدرها البعض ما بين 20 ـ 25 مليار دولار؟
معظم الاقتصاديين يقدر أن الأمر غير ممكن.
ما العمل إذا وأمامنا مقاربتان؟
مقاربة “حزب الله” الذي يرفض التدويل أو تدخل صندوق النقد الدولي سوى “استشاريا”. مقابل تنفيذ خيار المجموعة الدولية، أي القيام بالإصلاحات اللازمة وتطبيق وصفة صندوق النقد للحصول على المساعدة المالية التي ستمكن لبنان من البقاء في إطار الشرعية الدولية للخروج من وضعية الانهيار المفتوح بلا سقف أو قعر.
فالمجموعة الدولية تشترط، للمساعدة، تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، ومنها القراران 1701 و1559 اللذان ينصان على ضرورة حصرية السلاح في يد الدولة، إضافة إلى احترام اتفاق الطائف وإعلان الحياد في النزاعات الإقليمية.
إن خروج لبنان عن إطار الشرعية الدولية يهدد بقاؤه كبلد. فلبنان كدولة صغيرة محاطة بدول إما عدوة أو غير صديقة، وفي زمن لم تعد تنطبق فيه تنبؤات ألكسيس دو توكفيل في أن مصير الأمم الصغيرة الالتحاق بأمم أكبر منها، لأن الأمم الصغيرة تكون قادرة على البقاء إذا ما توفرت لها الحماية اللازمة من النظام الدولي.
لذا من مصلحة لبنان العليا هي البقاء في إطار الشرعية الدولية، لكن ذلك بالطبع يتناقض مع مصلحة “حزب الله” الكامنة في الخروج عليها والالتحاق بمحور “المقاومة والممانعة”.
من هنا نفهم أن التهويل على الرأي العام اللبناني من فقدان السيادة جراء اللجوء إلى صندوق النقد، هدفه الوقوف في وجه استعادة الدولة لحقوقها الشرعية ولسيادتها الكاملة. هذا في الوقت الذي يتهكم فيه على اللبنانيين: ابنوا دولتكم قبل أن تطالبوا بوضع سلاحي بإمرة الشرعية.
بالمقابل، ماذا يعرض علينا “حزب الله”؟ عدا عن الاقتصاد المقاوم الذي، كما تفهمه إيران، والاعتماد على الصيام؟
يعرض سياسة التمدد الإقليمي و”المقاومة” لتحرير مزارع شبعا وصولا إلى القدس. الأمر المستبعد الآن بحسب تصريح الجنرال الإيراني حسين سلامي. إذن هو يعرض “ستاتيكو” أي تجميد الوضع بانتظار الانتخابات الأميركية “لنبني على الشيء مقتضاه” على ما يرددون. فالحزب يعتبر أن ما يعيشه لبنان هو مؤامرة سياسية وليس أزمة اقتصادية ومالية فقط، تدفع به نحو مسار معين يسمح بالتدويل لتحد من نفوذه.
أما الحل بالنسبة له، فموجود وممكن. وفي حال اجتمعت القوى السياسية على اتخاذ قرار بحل سريع وجدي لملف واحد فقط، على سبيل المثال ملف الكهرباء، لاستطاعت السلطة استعادة ثقة الشارع ومن بعده المجتمع الدولي، ولعادت الدماء إلى الشرايين.
لكن هل تتعلق المسألة بملف الكهرباء وحده أو بإجراءات تقنية أخرى الآن بعد وقوع الواقعة؟
أقل المطلوب حاليا، إصلاحات بنيوية من أجل استعادة الإنتاجية والمنافسة وتوفير وسائل للإنتاج. وهذا لا يمكن أن يحصل دون الحوكمة والخضوع للدستور وتطبيق القوانين واحترام قرارات الشرعية الدولية.
ما الذي يقدمه صندوق النقد؟
تنقل الصحف أن وفد صندوق النقد الدولي أتى إلى لبنان كمستمع. وأكدت مصادر معنية للـ”MTV” بأن الوفد خرج بأكثر من اجتماع بانطباع سيئ حول كيفية تعاطي المسؤولين مع الأزمة، إذ تفاجأ أن المسؤولين اللبنانيين لا يملكون خطة واضحة أو أرقاما فعلية لإنقاذ البلد من الأزمة الاقتصادية التي يمر بها.
وأوضح أحد المشاركين في الاجتماعات مع وفد الصندوق بأنه “لم يلمس من المسؤولين اللبنانيين أي جدية بالتعاطي مع الأزمة التي يمر بها لبنان”، موضحا أن الوفد غادر البلاد مستاء”.
وكان يان كوبيتش، المنسق العام للأمم المتحدة، قد أطلق مجموعة تغريدات لافتة على حسابه عبر “تويتر” دعا فيها إلى “التشريع بشفافية”، كما حثّ صندوق النقد الدولي على “توفير المشورة والمساعدة للحكومة عندما تقوم بتحضير سلسلة من الإجراءات والإصلاحات القاسية المطلوبة من أجل البدء بانتقال لبنان من الأزمة الوجودية إلى التنمية المستدامة، ولكن بطريقة مسؤولة اجتماعيا”.
ومن المعلوم أن صندوق النقد وحده لا يكفي، [صندوق النقد الدولي وسيلة لتحريك الأصول التي نحتاجها]. المطلوب برنامج حكومي جيد، أي ما يعرف بالحوكمة: شفافية، مراقبة ومحاسبة. أمنت الثورة المراقبة. لكن ماذا عن الباقي؟
فهل يمكن للحكومة الحالية أن تقوم بما يُطلب منها وأخذ لبنان إلى الحياد وعدم جعله منصة للمحور الممانع الذي تقوده إيران وينفذه “حزب الله”؟
هل تقبل تدخل الصندوق الذي سيكشف خبايا المال والمصارف والإدارات منذ سنوات. وهي فضائح تطال غالبية الطبقة الحاكمة.
هل تملك الحكومة القدرة على الرفض؟ وهو ما يعني أن تسقط الطبقة السياسية من دون الصندوق، ومعها البلد بأكمله.
هل البديل أن يسقطهم صندوق النقد وحدهم؟
لماذا يشعرون بالتهديد من الصندوق النقد؟
لأن تطبيق وصفته تهدد السوق الموازية، لذا يعارضها القيمون على “الاقتصاد الموازي” المهيمن على السوق دون رادع والمحمي من أشخاص فوق القانون. خطة الصندوق تنعكس عليهم سلبا لصالح اقتصاد الدولة الشرعي وخزينتها. المتضرر هنا سيكون الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية التي تستغل أموال الخزينة لتمويل الحياة الحزبية في لبنان من خلال الصفقات والسمسرات والتوظيفات والهدر وغيرها.
لكن المتضرر الأكبر سيكون “حزب الله”، لأنه تحت شعار “المقاومة” سيطر على المعابر البرية والبحرية والجوية، وضبطها سيفقده القدرة على التهريب العسكري والتجاري مما يحول دون استكمال مشروعه العسكري في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول التي يتدخل فيها. وهذا سيحاصره ويجفف مصادر تمويله وعائداته التي يوظفها لتشغيل ماكينته الإدارية والإعلامية والعسكرية.
تلخص مقولة النائب جميل السيد ما الذي أوصلنا الى هذا المستوى من الانهيار: “لكم الفساد ولنا السلاح”. إن حماية هذا السلاح وتهريبه عبر الحدود البرية والإعفاءات من الضريبة بذريعة “المقاومة” شكلت الغطاء لتغذية السوق الموازية التي تشكل 30 في المئة من الاقتصاد اللبناني على أقل تقدير وهو يتوسع باستمرار.
وهذا لا يهدد الخزينة فقط بل ينعكس على الاقتصاد ويهدد هوية لبنان المبنية على الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية والتبادل الحر والقطاع الخاص.
لذا تشكل دعوة “حزب الله” اللبنانيين لمواجهة أميركا ومقاطعة بضائعها تناقضا سافرا مع طبيعة الاقتصاد اللبناني وبالتالي نمط عيش الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. إضافة الى التوجه السياسي التقليدي للبنان المحايد والمنفتح على المحيطين العربي والغربي.
وعليه فإنّ هذا التناقض هو تناقض سياسي مصيري وأساسي يتشابك مع الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، بحيث يصعب تصور حلّ جذري لهذه الأزمة خارج معالجة هذا التناقض. لذا لا يمكن للمعالجة أن تكون تقنية بحتة، طالما المشكلة الأساسية هي استعصاء المواءمة بين النموذج السياسي ـ الاقتصادي التاريخي في لبنان وبين التموضع السياسي للبنان في خريطة الصراعات الإقليمية والدولية في ظلّ سيطرة “حزب الله” على الفضاء السياسي والأمني والاقتصادي في البلد.
يصبح السؤال هنا: أي هوية نريد للبنان؟ ماذا نريد لاقتصاده؟ وفي ظل إغلاق أكثر من 800 مؤسسة خاصة أبوابها حتى الآن، يزداد اعتماد الاقتصاد على القطاع العام. فيزداد تفاقم المشكلة ما يحولنا إلى اقتصاد ريعي (قطاع حكومي متضخم) معادٍ للقطاع الخاص.
الحل لا يكون بتدابير مجزأة ومتفرقة. ولا يجب تحميله للفقراء، فهناك لا مساواة كبيرة جدا، ربما من الأعلى في العالم.
إن إعادة توزيع الثورة سهل لكن من سيتحمل الخسارة؟ أول من عليه تحملها من وصل إلى الثروة بدون وجه حق. ومن الخطوات الأساسية والضرورية اعتماد الضريبة التصاعدية.
نحن الآن أمام أسئلة مصيرية من نوع:
هل نريد الخروج من الأزمة واستعادة عافية الاقتصاد؟
هل يمكن ذلك دون التمويل الخارجي المشروط؟
هل يعني هذا انتظار نتائج الانتخابات الأميركية؟
أم سننتظر تبلور الوضع السوري؟ والدخول في إعادة الإعمار؟ أم تحرير شبعا أو القدس؟
وإلى متى سيحتمل الوضع الاقتصادي؟ ناهيك عن الأمن الاجتماعي في وقت تتزايد فيه السرقات باطراد؟
وإذا اقتنع “حزب الله” بضرورة القيام بشيء ما لا يناسب إيران، هل سيتمكن من اتخاذ قرار لبناني مستقل؟ ألم تعلمنا زيارة لاريجاني أن إيران غير معنية بمصلحة لبنان ولا بإرادة نصرالله في لملمة الوضع. ألم تلغ الزيارة مضمون خطاب نصرالله الذي نفى فيه سيطرة حزبه على قرار حكومة لبنان ورغبته بعدم معاداة العرب؟
لا شك أن اللجوء إلى صندوق النقد سيكون صعبا على اللبنانيين، لكن ما ينتظرهم بدونه سيكون أصعب.
لذا من الأفضل للثورة، أن يكون الإصلاح تحت رعاية الشرعية الدولية حفاظا على الدولة اللبنانية ووجودها. فصندوق النقد لا يتفاهم مع أحزاب بل يأتي بالتكامل مع الشرعية الوطنية.