كان ملفتا البيان الدوري الذي أصدرته الأسبوع الماضي كتلة “حزب الله” النيابية (كتلة “الوفاء للمقاومة”)، قبل جلسة الثقة ـ المهربة ـ بالحكومة التي تثير جدلا واسعا والتي نفض الجميع أيديهم منها.
حكومة حسان دياب نالت الثقة المنقوصة على وقع أصوات سيارات الإسعاف وتحت رحمة القنابل المسيلة للدموع وسمومها؛ وبحماية قرارات مجلس الدفاع الأعلى الذي اجتمع لمواجهة “أعداء الجمهورية”، أي الثوار. جلسة سوريالية تعتبر أفضل عرض حال للجمهورية التي صارت أشبه ببيضة تبدو سليمة من الخارج لكنها فارغة من الداخل.
بيان الكتلة تألف من 620 كلمة تقريبا، استْهِلّ بتحية الثورة الإيرانية التي استهلكت أكثر من 220 كلمة، أي ثلث البيان. أما لبنان، الذي تطلب الكتلة من أبنائه “الإجماع الوطني لتحمل الإصلاحات الموجعة المطلوبة” فلم يحتج لأكثر من 160 كلمة. فيما توزع الباقي ما بين إدانة ما يعرف بـ “صفقة القرن” وأميركا وتحقير بعض العرب الذين “باعوا فلسطين”؛ غافلين عن أنهم (أي “حزب الله” ونوابه) أضاعوا طريقها أيضا وأغرقوه ببحر الدماء العربية.
في كل شأن، لإيران ومصالحها، الأولوية على لبنان ومواطنيه في سياسات الحزب. أخبرنا رئيس كتلته النيابية محمد رعد أن “هذه الحكومة لا تشبهنا”! فهو بعد أن بذل الغالي والرخيص وعرض مع حليفه لبن العصفور، لعودة الحريري، جاء بحكومة المستشارين، التي سرعان ما تبرأ منها. هي طبعا لا تشبههم لكنها في خدمتهم. بالطبع لا يثقون بنجاحها، فوظيفتها تمرير الوقت الإقليمي والدولي. لذا يهيئنا لاحتمالات فشلها: “إن طريقة تشكيل الحكومة جعلتها لا تملك برامج إنقاذية جاهزة ومعدة لمعالجة الأزمات المالية والنقدية والاقتصادية فضلا عن الأزمات الاجتماعية”. يريد رعد إقناعنا أنها حكومة مستقلين عن الأحزاب ولذا لا تملك برامج إنقاذية مسبقة! لكنها مع ذلك تبنت نفس خطة الكهرباء وهي المصدر الأول للعجز!
كما يفترض هذا أن حكوماتهم السابقة، ملكت مثل هذه البرامج! فما الذي أغرقنا إذن فيما نحن فيه؟ ولماذا لم تكتشف الكتلة من قبل أن على لبنان “في ظل ظروفه المالية والاقتصادية الصعبة استحقاقات مالية في الأشهر المقبلة!”.
وصلنا للأزمة برأي الحزب بفعل “اعتماد سياسة الاقتراض وتراكم المديونية العامة”. في إغفال لدور الفساد، الذي يتأبط النائب فضل الله ملفاته منذ أكثر من عامين دون أن يكشف عن أي منها. بل يخبرنا أنه اصطدم بمعيق لمهمته: الفساد نفسه الذي يحاربه! فيصرح في 19 أغسطس 2019: “إن الفساد مستشري في مؤسسات الدولة”! وأكمل “اصطدمنا بحاجز اسمه القضاء في لبنان، فإما هو قضاء عاجز، وإما مهمل، وإما متواطئ، وإما فاسد ومرتش”. معقبا: “ولكن مجلس النواب يستطيع أن يقوم بدوره من خلال ما نص عليه القانون من تشكيل لجان تحقيق برلمانية لها الصلاحية الكاملة في الوصول إلى النتائج وتوجيه الاتهام”.
الحزب، صاحب الفيتو المتحكم بسياساتنا والذي طالما هددنا بقطع الرقاب والأيدي، عاجز عن إيجاد قاض غير فاسد يلاحق ملفا واحدا من ملفاته إلى النهاية ولو “ليحط على عين الثوار”! ولا استطاع تحقيق غايته عن طريق تلك اللجان البرلمانية! أليست إذن وظيفة ملفات فضل الله الابتزاز لديمومة الإمساك برقاب “الحلفاء والخصوم”؟ فتظل “التسوية” الداخلية على قيد الحياة ولو بالتحايل والذرائع؟ على غرار تهريب جلسة الثقة ونفض جميع أطراف التسوية الشهيرة يدهم منها.
“حزب الله” الآن في مأزق. وكي لا يعلنوا إفلاس الدولة، يحتاجون ما يشبه الإجماع الوطني: “المسارات الجذرية في المعالجة المالية والاقتصادية والنقدية تستوجب قرارا وطنيا وتفهما شعبيا”.
“حزب الله” الذي استغنى عن “الإجماع” في مساندة “مقاومته”، وعطّل الحياة السياسية بالتكافل والتضامن مع رئيس مجس النواب لمدة 7 سنوات متقطعة، وحارب في سوريا والعراق واليمن وتاجر وفتح أعمالا وشبكات في شتى أنحاء العالم، دون أي استئذان من أي من اللبنانيين، سوى من مرجعيته المعروفة: “المبجل خامنئي”؛ ها هو يحتاج الآن إلى هذا الإجماع عند الغرم بعد أن استغنى عنه عند الغنم.
يريد غطاء اللبنانيين وإجماعهم لمواجهة أزمة هو أول المتسببين بها، دون أن يحرص على إجماعهم حول سلاحه أو دوره الإقليمي. يريد إجماعهم متجاهلا مطالبتهم بالجيش مرجعية وحيدة للدفاع عن لبنان تحت راية العلم اللبناني.
يتوهم البعض أن الحزب لم يفرض ثلاثيته الذهبية في البيان الوزاري للحكومة هذه المرة: “جيش، شعب، مقاومة”، وأشار إلى دور الدولة، مكتفيا “بحق اللبنانيين بمقاومة العدو”. ما معنى ذلك؟ “هؤلاء” اللبنانيون لأي كوكب ينتمون؟ أليسوا مواطنين في دولة لها مؤسساتها وجيشها المنوط به الدفاع عنهم وعن أرضهم وكرامتهم؟ أم أنهم يعيشون تحت الاحتلال وبالتالي المطلوب منهم مقاومته بأي طريقة؟
يريدون الإجماع على تحمل وزر ارتكابات يتنصلون منها، بذريعة أنها استحقاقات موروثة! أي أنهم لم يشاركوا في المسؤولية في الوصول إليها. لكنهم شاركوا في الحكم طوال الثلاثين عاما الماضية، وأصبحت مشاركتهم وازنة وأساسية منذ 2005، وطاغية منذ 2011. عدا عن أن الأرقام تشير إلى أن العجز في صيف 2005 كان يبلغ 33,8 مليار دولار. في العام 2011 وصل إلى 58 مليار. وعند استلامهم ازداد الدين ملياران فأصبح العجز في أغسطس 60 مليارا.
ومنذ 2015 حتى الآن، بلغ ما يقارب المئة مليار. كل ذلك برعايتهم وتحت إشرافهم وبالتواطؤ مع جميع الشركاء. ويتحمل قطاع الكهرباء التي تعاقب وزراءهم وحليفهم عليها أكثر من 40 مليار دولار من العجز.
فلمَ يتبرؤون من دم هذا الصديق؟
أما الزعم بأنها ليست حكومتهم، كالعادة، يكذبه اعتراف نائب رئيس المجلس التنفيذي في “حزب الله” الشيخ علي دعموش: “في لبنان فقد خابت آمال الولايات المتحدة في الانقلاب على موازين القوى، ولم تستطع أن تغير في المعادلة السياسية الداخلية القائمة أو أن تخرج حزب الله وحلفاءه من هذه المعادلة أو من الحكومة”.
إن طلب المزيد من التضحيات من الشعب اللبناني، الذي لم يعد يملك أي من مقومات الحد الأدنى للاستمرار؛ يتطلب على الأقل مراجعة للذات وأخذ إرادة الرأي العام بعين الاعتبار والتخلي عن السياسات التي قطعت علاقاتنا الخارجية مع العرب والعالم. كما يستوجب إيقاف سياسة “خلونا نسرق، ما مندفعكم ضرايب”، كما قال غسان عياش على LBC.
في كتابه الصادر حديثا عن دار الفارابي “أيام مع الإمام الخميني وبدايات الثورة“، يستنتج أسعد حيدر أنه خلال سنوات الحروب الطويلة، تهاوى الشعاران الكبيران: “لا شرقية ولا غربية” و “لا سنية ولا شيعية”، لذا تحول شعار تصدير الثورة إلى حروب مباشرة واستقدام ميليشيات وإقحام “حزب الله” ليخسر الآلاف من مقاتليه… إن أي قراءة موضوعية تؤكد أن كل خطوة للدولة الجديدة (ما بعد الخميني) في هذا المشروع إغراق أكبر في مستنقع الصدام مع محيطها العربي والإسلامي.
كلما تقدم مشروع الدولة ـ الخامنئي خطوة إلى الأمام، كلما تراجع المشروع الذي حلمنا وآمنا به بقيام تحالف عربي ـ إيراني إلى الوراء. ومهما قيل عن الأسباب التي أوجبت إيران التدخل في سوريا، فإن النتيجة واحدة وهي تعميق الخلاف الشيعي ـ السني وتعميده بالدماء المهدورة..
هذا ومن المعروف أن أسعد حيدر، الذي رافق الخميني منذ مجيئه إلى فرنسا، هو من الصحافيين الموضوعين ولا يكن أي مشاعر عدائية لإيران.
لا يمكن لـ “حزب الله” أن يبقى على تبعيته لدولة أجنبية ويمتحن تلاميذه بـ”بطلها” قاسم سليماني، المثير للجدل؛ ويطلب من اللبنانيين التضحية من أجله وبالإجماع.
monafayad@hotmail.com