(الصورة: وحيداً.. حسان دياب “علاوي”! من أتى به؟)
منذ اندلاعها في ١٧ تشرين الاول/ أكتوبر الماضي، كانت الإنتفاضة اللبنانية محط إجماع اللبنانيين الذين ضاقوا ذرعا بفساد الطبقة الحاكمة واستهتارها، ليس بكراماتهم فحسب، انما ايضا برزقهم ولقمة عيشهم!
مع اندلاع الانتفاضة ايضا، خرجت مطالبات بتولي “قيادة ما” لزمام امورها. وكان رئيس الجمهورية اول المطالبين بوفدٍ من الثوار ليبحث معهم ماهية مطاليهم، إلا أن المنتفضين رفضوا، وكانوا محقين. إذ أن الانتفاضة فاجأت السلطة الحاكمة، وراعيها “حزب الله“، فكان مطلب “تشكيل وفد للقاء رئيس الجمهورية” محاولة مكشوفة لاحتواء الانتفاضة، والتعرف الى هوية الذين بقفون خلفها، وعلى الطريقة اللبنانية يتم ترهيبهم، الى حد الاغتيال- وهذا معروف في لبنان، وجاري عادة- او ترغيبهم من خلال عرض مناصب وزارية عليهم، من قبل “التيار الوطني الحر”، بعد ان كان “حزب القوات اللبنانية” أعلن عن عزوفه عن المشاركة في الحكومة المقبلة.
وللأمانة والموضوعية، كان وزراء القوات اول “الناجين” من مركب السلطة المتهاوي تحت صرخات المنتفضين الجائعين. في حين سعى رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الى الافادة من الانتفاضة، فخرج على المنتفضين بـ”ورقة اصلاحية اقتصادية”، متعهدا بتنفيذها في حال لاقت قبولا لدى المنتفضين. إلا أن زخم الانتفاضة في بداياتها، افضى الى اعتبار ان السطة ستضطر الى التراجع اكثر، وبالتالي، هناك امكان لتحصيل المزيد من المكاسب، خصوصا ان الحريري في كلمة له في اول ايام الانتفاضة، دعا المنتفضين الى البقاء في الشارع، متعهدا بالسير في انتخابات نيابية مبكرة، طبقا لما كان يطالب به المنتفضون.
بكل وقاحة!: إذا توقفت الدولة عن دفع رواتبكم.. أنا أدفع!
ومع تصاعد زخم الانتفاضة، استجاب الرئيس الحريري لمطلب استقالة الحكومة، فأعلن استقالة حكومته، من دون ان تلقى هذه الاستقالة استحسانا لا من المنتفضين، ولا من السلطة التي كان الحريري شريكا اساسيا في انتاجها. فاستمرت الحملات عليه وعلى “تياره” في الشارع، تزامنا مع حملات التخوين والتشكيك من شركاء السلطة.
حزب الله بدوره سعى الى احتواء الانتفاضة، فكثّف امينه العام حسن نصرالله طلعاته الاعلامية، منتقدا حينا و”متعاطفا” مع المنتفضين! إلا أن محاولات للاحتواء باءت بالفشل، فلجأ الى احتياط الحزب وحركة امل الاستراتيجي، في الاحياء الشيعية في العامة بيروت، لارسال جماعات “الموتوسيكلات” من بلطجية ما يُسمّى “الثنائي” لاحراق خيم المنتفضين في ساحة الشهدء، والاعتداء عليهم وسط تدخل القوى الامنية حينا لحماية المنتفضين، وتراجعها احيانا أخرى، حين تؤخذ على حين غره، فتفوق اعداد “البلطجيه“، اعداد المنتفضين وقوى الامن معا!
في اعقاب استقالة الحكومة، اعتبر المنتفضون ان بامكانهم تحقيق المزيد من المكاسب، ففرضوا شروط تشكيل الحكومة المقبلة، معلنين سلسلة “مبادئ” تحت طائلة رفض اي تشكيلة لا تحمل مطالبهم، وفي مقدمها حكومة “اختصاصيين” او “تكنوقراط” لا يسميهم قادة الاحزاب، برئاسة شخصية مستقلة، يكون في مقدم برنامج عملها، تعديل قانون الانتخابات واجراء انتخابات نيابية مبكرة، تزامنا مع خطة اقتصادية لمعالجة حال الانهيار الاقتصادي العام في البلاد.
وفي حين لم يتقدم احد الى مقدم الانتفاضة، اعتبر اللبنانيون ان هذا الامر فيه من الايجابية ما يحول دون استفراد “قائد” الثورة! فكانت التحركات الشعبية تخفت حينا وتستعر احيانا في ما بدا انه تنسيق بين ساحات الانتفاضة يحول دون تجمع المنتفضين في ساحة واحدة، وبالتالي محاصرتهم من قبل القوى الامنية لحمايتهم، فيسهل عليها التعرف اليهم اولا، ويسهل التعرف عليهم من البلطجيه عند الضرورة، فينقضون عليهم بالهراوات والسلاح الابيض! فحافظت مدينة طرابلس على شعلة الثورة الدائمة، وبهتت التحركات في العاصمة، واصبحت “على القطعة“، في حين تم قمع المنتفضين في ساحات جل الديب وجبيل وجونيه، اي في المناطق المسيحية، وتعرض المنتفضون لانواع متعددة من العنف الجسدي على يد قوى الامن من جيش ومكافحة الشغب، بما حال دون اي تجمع في جل الديب وزوق مصبح.
مع تسمية “حسان دياب” لتشكيل الحكومة سعى المنتفضون الى التعبير عن رفضهم لهذه التسمية بالمطلق، في حين طالب قسم آخر منهم باعطاء دياب فرصة، وهو القادم الى رئاسة الحكومة من مقاعد الادارة والتدريس في الجامهة الاميركية في بيروت. وحجة الرافضين ان التسمية جاءت بطلب “مغفل” من حزب الله، وبموافقة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وحجة اصحاب رأي اعطاء الفرصة، ان التشكيلة الحكومية وبيانها الوزاري ستكون الفيصل في تحديد الموقف النهائي من دياب وحكومته.
تعرض تشكيل الحكومة لتجاذبات التشكيلات السابقة من “تناتش” للحصص الوزارية! فأصر رئيس التيار الوطني الحر اعلى الاستئثار بحصة المسيحيين الوزارية كاملة، مع اصراره على الاحتفاظ بوزارات الطاقة والخارجية والدفاع، على ان يتفاوض على باقي حصته من الوزارات. الامر الذي اثار حفيظة الحلفاء قبل الاخصام، فتأخر تشكيل الحكومة، مع اعلان رئيس تيار المرده سليمان فرنجيه مطالبته بوزارتين، بدل وزارة واحدة، رافضا ان يتحكم الوزير جبران باسيل بالحكومة وحيازته على الثلث زائدا واحدا من عدد الوزراء فتكون قرارات الحكومة في جيبه. وذلك ما ما استدعى تدخل الراعي المحلي، أي “حزب الله“، لرأب الصدع بين فرنجيه وباسيل، فنال الاول وزارتين، وخسر باسيل فرصة تعطيل الحكومة.
تزامنا@، كان المنتفضون يراقبون وينتقدون مسار التأليف، من دون ان تظهر الى العلن اي مبادرة تشي بتصعيد حال الرفض للحكومة المنتظرة، ما عدا طرابلس، وما عدا اعتصام خجول في ساحة الشهداء في بيروت، اقتصر على ندوات حوارية في خيم المنتفضين، وساحات اخرى بقي الحضور فيها خجولا، وعلى قاعدة “ربط النزاع” مع المرحلة المقبلة، في النبطيه وكفرمان وبعلبك، وسواها.
مع تسمية حسّان، دياب انتفض شارع تيار المستقبل، حيث اعتبر انصار الرئيس الحريري ان الثورة جاءت على حساب رئيس تيارهم، وان كانوا غير موافقين على خوضه غمار التسوية مع التيار الوطني الحر. فجمهور “التيار الازرق” كان مشاركا بنسبة ما في الانتفاضة، وهو رفض اقتصار المحاسبة على رئيسه، دون ان تطال باقي الرؤوساء. إذ بدا وكأنه بتم تحميل الطائفة السنية وزر الازمة الاقتصادية، وسط تصاعد حملات من قبل التيار العوني وحزب الله، تلقي بمسؤولية الانهيار الاقتصادي على سياسيات الرئيس الشهيد رفيق الحريري المالية الاقتصادية.
انتفاضة “المستقبل” بقيت محصورة في مناطق تواجد التيار الازرق في بيروت في شوارع قصقص والطريق الجديدة والمزرعة، من دون ان يلاقيها المنتفضون في الساحات الاخرى، مع اصرار المنتفضون “السنّة” على القول بأنهم لا يريدون عودة الرئيس الحريري الى رئاسة الحكومة، إلا أنهم يرفضون تحميله وتياره وحدهم مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع في البلاد. وكانوا يناشدون يوميا رفاقهم في جل الديب والزوق لمساندتهم، إلا أن هذه المناشدات لم تلق الآذان الصاغية.
أعقب ذلك الاعلان عن التشكيلة الحكومية، ونيلها الثقة بالطريقة الملتبسة التي نالتها بها، مع اعلان رئيس المجلس النيابي نبيه بري، عن افتتاح جلسة الثقة قبل اكتمال النصاب القانوني، الذي لم يكتمل إلا اثناء القاء دياب بيان حكومته امام النواب الحاضرين، وليس قبل افتتاح الجلسة. وهذا عدا تجاوز الرئيس بري بعض الاصول الدستورية. فلم يطلب تعداد النواب الحاضرين لتأكيد عددهم، ولم تتم تلاوة مراسيم تشكيل الحكومة وقبول استقالة الحكومة السابقة فور بدء الجلسة، محاولا كسب المزيد من الوقت، لانهاء الجلسة وتسهيل عمل الحكومة.
جلسة الثقة استعدت استنفارا من المنتفضين، فتجمعوا ونسقوا في ما بينهم لمنع النواب من الوصول الى المجلس النيابي، إلا أن هذه الامر لم يتحقق لهم للاسباب التالية:
الخطة الامنية المحكمة التي اعدتها القوى الامنية لتأمين وصول النواب الى المجلس، وصولا الى اطلاق القنابل المسيلة للدموع بغزارة لتفريق المتظاهرين، تأمينا لموكب سيار لاحد النواب.
الإشتراكيون والقوات والمستقبل غابوا عن “استنفار” جلسة الثقة!
تراجع اعداد الثوار بعد انكفاء الحزبيين عن المشاركة في الانتفاضة، خصوصا ان هؤلاء تعرضوا خلال مشاركتهم في الايام الاولى للانتفاضة لشتى انواع الرفض من قبل رفاقهم من غير الحزبيين متهمينهم بالمندسين والذين يحاولون “ركوب” موجة الثورة لتحصيل مكاسب لاحزابهم، كما ان قادة هؤلاء الحزبيين لم يسلموا من “السباب” والشتائم، من قبل المنتفضين. فكان انصارهم يتغاضون ويجارون رفاقهم على قاعدة ان الانتفاضة مطلبية اجتماعية وليست سياسية، وحين يأتي دور السياسة يبني كل منتفض على الشيء مقتضاه، وهكذا غاب الاشتراكيون والقوات والمستقبل عن انتفاضة جلسة الثقة، فشارك المستقلون الرافضون لكل شيء، واستطاعوا تأخير الجلسة لاكثر من نصف ساعة واجبروا رئيس المجلس على افتتاح الجلسة بطريقة غير دستورية، فاستدرح نواب القوات والاشتراكي والمستقبل للدخول الى قاعة المجلس بعد ان اوهمهم ان النصاب اكتمل، وهم كانوا اتفقوا معه على تأمين ميثاقية الجلسة وليس النصابـ، اذا من غير المعقول ان يكون هؤلاء في صفوف المعارضة وخارج الحكومة، وان عليهم تأمين النصاب للفريق المشارك في تشكيل الحكومة.
استطاع المنتفضون ايضا، إعادة تأكيد ثوابت مطالبهم ولكنهم هذه المرة كانوا مستفرداً بهم بعد ان انكفأ جمهور الاحزاب، فضاعت بوصلة الانتفاضة واستوى حسّان دياب على مقعد الحكومة في حين ارتفعت حدة الخلافات بين المنتفضين وتبادل الاتهامات بين من يفترض انهم جبهة معارضة موحدة! فالقى تيار المستقبل وحزب القوات بمسؤولية تأمين نصاب جلسة الثقة على عاتق الحزب الاشتراكي، في حين اتهم الاشتراكي القوات والمستقبل بالغش، فهم كانوا طلبوا الكلام خلال الجلسة ومن الاصل هم يريدون المشاركة فيها، فكيف يحملون غيرهم مسؤولية افعالهم ويتهربون من المسؤولية امام الناس والمنتفضين وجمهورهم غير الموافق على تركيبة الحكومة؟
تقف الانتفاضة اليوم على مفترق، ومعها من يفترض انهم احزاب وجمهور المعارضة للحكومة، وهم كثر، يجمعون الى الاحزاب الثلاثة المستقبل والقوات والإشتراكي، شخصيات مستقلة نيابية ووزارية، انما كل من مربعه يقوم بالمعارضة على طريقته! ففي حين يستطيع امين عام حزب الله حسن نصرالله ضبط ايقاع ما كان يعرف بقوى 8 آذار، فإن الفريق المقابل منشغل بخلافاته وتبادل الاتهامات بين صفوفه. وهكذا ولان حزب الله يملك مشروعا للسيطرة على الدولة استطاع ان يؤمن هذه السيطرة بعد 15 سنة على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عبر الرئاسات الثلاث واغلبية نيابية وحكومة موالية بالكامل، في حين ان المعارضين الافتراضيين لا يملكون مشروعا موحدا لمواجهة “حزب الله“! بل على العكس، منهم من يسعى الى تحييد” الحزب الإيراني” عن معاركه السياسية وحصرها بالفريق المسيحي من 8 آذار اي الرئيس عون والوزير باسيل، ومنهم من يسعى الى التلهي بمناوشات هامشية على خلفية تعيينات من هنا او تشكيل وزاري من هناك.
اما ناشطو الانتفاضة، فهم ايضا لا يملكون مشروعا للغد، باستثناء حق النقض، الذي مارسوه على كل الطبقة السياسية، فخسروا دعم اطراف رئيسية في السلطة بدت متضررة من الاستمرار في المشاركة في السلطة، وهذا ما تجلى في التراجع النسبي للزخم الشعبي للانتفاضة، فضلا عن ان المنتفضين لم يستطيعوا تقديم نموذج ايجابي للحكم، في موازاة السلبية المطلقة تجاه السلطة.
ازاء هذا الواقع تبرز الازمة الاقتصادية التي تتفاقم يوميا من دون ان يبرزز في الافق ما يشير الى حلول مرتقبة، ما ينذر ايضا بعودة الزخم للانتفاضة من باب تفشّي الفقر مع ما يحمله ذلك من احتمال ترافق الاحتجاجات مع اعمال عنف تقابلها اعمال قمع من السلطة التي تشّرعت بالثقة.
قبل ان يصل لبنان الى حالة الغرق الكامل وافلاس الدولة واعلانها دولة فاشلة فإن المطلوب اليوم قبل الغد إطلاق مشروع معارضة متكامل يحمل في طياته ما يجب القيام به اليوم وغدا!
وإلا، فإن المنتفضين سيخسرون كل مكاسبهم، وسيرتفع عدد المعتقلين من بينهم الذين يتم استدعاؤهم يوميا الى مراكز القوى الامنية للتحقيق بتهم لا يأتي على ذكرها الدستور كافعال جرمية من نوع المشاركة في تظاهرة او تمويل انتفاضة او سوى ذلك. علما ان عدد الذين استدعوا للتحقيق تجاوز ٩٠٠ ناشط. تزامنا سيتم الاستفراد باحزاب المعارضة فردا فردا، وكل ما تم البناء عليه منذ ١٤ آذار من العام 2005، سيذهب هباء منثورا.