كما كان متوقعا، رضخ القضاء الباكستاني لضغوط المؤسسة العسكرية فألغى حكم الإعدام بحق مشرف يوم الأحد 12 يناير الجاري.
*
للمرة الاولى يحكم القضاء الباكستاني على زعيم عسكري سابق بالموت شنقا بتهمة الخيانة العظمى.
في بلدٍ ظل يرزح تحت حكم الجنرالات نصف تاريخه تقريبا منذ انفصاله عن الهند البريطانية. المعني بالحكم هو الجنرال المتقاعد برويز مشرف الذي وصل إلى السلطة في اسلام آباد عام 1999 على إثر نجاح إنقلابه على الحكومة المدنية المنتخبة بقيادة رئيس الوزراء السابق نواز شريف، وظل ممسكا بمقاليد الحكم مذاك وحتى تاريخ إستقالته في عام 2008 وخروجه إلى المنفى الإختياري تحت ضغوط داخلية وخارجية مورست عليه.
خلال سنوات حكمه إرتكب الرجل أخطاء كثيرة، كما يردد عموم الباكستانيين البسطاء الذين يعتقدون أنه أخـّر تقدم البلاد وأرجعها إلى الخلف وأن التخلص منه بالإعدام سيكون درسا لكل عسكري يفكر مستقبلا إيقاف عجلة الديمقراطية، لكن أخطاء مشرف ــ من وجهة نظري الشخصية كمتابع مستقل ــ لم تكن أكثر فداحة من تلك التي اقترفها من سبقوه من جنرالات حكموا البلاد، ولا سيما الجنرال ضياء الحق الذي حكم ما بين عامي 1977 و 1988 فشهدت حقبته إصراره على شنق أحد أهم ساسة البلاد المدنيين في التاريخ المعاصر (ذو الفقار علي بوتو)، وترسيخه ثقافة الكلاشينكوف في المجتمع الباكستاني من خلال احتضانه للمجاهدين الأفغان وإيوائهم ودعمهم ضد السوفييت، ناهيك عن إصداره قرارات أسلمة مظاهر الحياة التي أوجدت مناخا وتربة صالحة لنمو خطاب التطرف والتشدد.
وإذا ما أكدنا أمرا مؤكدا، يعرفه القاصي والداني ولا يحتاج إلى أدلة وبراهين، وهو أن جنرالات المؤسسة العسكرية لهم الكلمة الفصل في أحوال البلاد حتى في الحالات التي تكون فيها باكستان مُدارة من قبل حكومات مدنية منتخبة، فإنه من الطبيعي والحالة هذه ألا تستسيغ المؤسسة العسكرية النافذة صدور حكم بإعدام أحد جنرالاتها الكبار، فما بالك لو كان هذا الجنرال هو برويز مشرف الذي خدم الجيش لمدة 40 عاما أبلى خلالها بلاء حسنا في كل الحروب الباكستانية ــ الهندية، وحكم البلاد باسم المؤسسة العسكرية لنحو عقد من الزمن، خاض فيه أيضا الحروب من أجل الوطن (حرب مرتفعات “الكارغيل” مع الهند)، وتحمل في الوقت نفسه تبعات الضغوط التي مورست على إسلام آباد من قبل الحليف الأمريكي غداة أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية.
من هنا يمكن فهم ردود أفعال الجيش الباكستاني، ومعها ردود أفعال الحكومة المدنية بزعامة عمران خان (الذي كان من أشد منتقدي مشرف زمن حكمه لباكستان) حيال الحكم الذي أصدرته إحدى المحاكم الباكستانية الخاصة غيابيا بإعدام مشرف كعقوبة له على جرائم شملت خيانة الوطن وتعليق العمل بمواد الدستور وإعلان حالة الطواريء، خصوصا وأن الحكم تضمن نصا يقول بأنه في حال موت مشرف طبيعيا قبل إعدامه فإن على السلطات أن تستعيد جثته وتعلقه لمدة ثلاثة أيام في العاصمة إسلام آباد. وقد تراوحت ردود الأفعال هذه بين الرفض والتنديد والتشكيك في صحة إجراءاته والتعجل في إصداره. ولعل أقواها بيان من الناطق الرسمي باسم الجيش الجنرال آصف غفور جاء فيه أن الحكم الصادر ضد مشرف “تسبب في الألم والحزن لمختلف منسوبي القوات المسلحة، واعتقادنا هو أن الإجراءات القانونية السليمة والواجب إتخاذها قد تم تجاهلها“.
وبطبيعة الحال، ليس من المتوقع أن يطبق الحكم لأن المعني به يعيش خارج البلاد، ولا ينتظر أن يعود من تلقاء نفسه ليسلم رقبته إلى حبل المشنقة. إذ يكفيه ما عاناه حينما قرر أن ينهي وجوده في منفاه الإختياري عام 2010 ويعود إلى وطنه للمشاركة في الانتخابات العامة لسنة 2013 على رأس حزب سياسي شكله تحت إسم حزب “رابطة عموم مسلمي باكستان“. فبدلا من أن تسمح له السلطات بالمشاركة وممارسة حقوقه السياسية كأي مواطن باكستاني آخر، اقتيد من مطار كراتشي إلى الإقامة الجبرية التي لم يخرج منها إلا عام 2016 عندما استجيب لطلبه بمغادرة البلاد للإستشفاء في الخارج. وقد تخللت فترة إقامته الإجبارية صدور أحكام ضده بمنعه من الترشح لأي إنتخابات قادمة، واتهامه بالتورط في إغتيال رئيسة الحكومة الأسبق بي نظير بوتو.
والحال أن الود المفقود أصلا بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية في باكستان، منذ رفض الثانية لإقتراح من الأولى بتمديد خدمة رئيس أركان الجيوش الباكستانية “الجنرال قمر جاويد باجوا” إلا في حالة موافقة البرلمان، يزداد إتساعا، وكأنما التاريخ يعيد نفسه. ففي أيام حكم مشرف إصطدم العسكر بالقضاء أيضا وذلك حينما أعفى مشرف كبير القضاة “إفتخار محمد تشودري” في عام 2008 من منصبه. فما كان من المؤسسة القضائية إلا وأن نفذت حملة إحتجاجات واسعة تصدرها المحامون والقضاة للإطاحة بالجنرال وإخراجه من السلطة.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي