قوة علاقات، ونفوذ، وخطط زعيم فيلق القدس السابق قاسم سليماني في المنطقة، هي حديث الغالبية العظمى من المراقبين، الذين ينقسمون إلى فريقين مختلفين بشأن إمكانية ظهور قائد آخر بنفس تلك الصفات الفردية والاستراتيجية ليكمّل مسؤوليته المتعلقة بخطط إيران التوسعية.
فريق يعتقد بأن إيران ولّادة وقادرة على إنتاج سليماني آخر حتى لو احتاج ذلك إلى مزيد من الوقت. وفريق آخر يعتقد بأن القضاء على سليماني، الذي استهدفته طائرة أمريكية من دون طيار فجر الجمعة الماضي، يمكن وصفه بأنه قضاء على نهج أكثر من كونه قضاء على شخص، وأنه من الصعوبة بمكان تعويض هذا النهج أو تشكيله مرة أخرى في ظل قائد جديد أو من دون قائده السابق الذي أسس هذه البنية الاستراتيجية منذ تسلمه الفيلق عام ١٩٩٨.
يقارن محمد جواد أكبرين، الكاتب الإيراني المعارض والقريب من التيار الإصلاحي في إيران، بين عملية اغتيال المسؤول العسكري في حزب الله اللبناني عماد مغنية عام ٢٠٠٨ وبين اغتيال سليماني. فمغنية كان يتمتع بشعبية كبيرة ومكانة رفيعة لدى الحزب وعند مؤيديه في الطائفة الشيعية، وكان مستشارا لسليماني، ورفيقه في جبهات القتال لسنوات طويلة، لذا كان ضمن الفريق الاستراتيجي الذي كان بقيادة الزعيم السابق لفيلق القدس. فبعد اغتيال مغنية، كتب مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي، في رسالة تعزية إلى أمين عام حزب الله حسن نصر الله: “الدماء الطاهرة للشهداء كدماء الشهيد عماد مغنية تخلق مئات آخرين كعماد مغنية”. لكن الحقيقة والوقائع على الأرض تؤكد أن مغنية “لم يتكرر مجدّدا في حزب الله، ولم يتمكن أحد من شغل مكانه من حيث القوة والشخصية والنفوذ”.
يتساءل أكبرين: “هل يمكن أن تتكرر لإيران شخصية مثل قاسم سليماني، تستطيع الترويج لأهداف إيران الإقليمية؟ هل هناك، كما قال المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني، العديد من قاسم سليماني، لكن ثقافة الحرس الثوري لا تسمح بعرضهم أمام المجتمع؟”. ويجيب: “إن اغتيال سليماني يمكن أن يولد العاطفة ويجذب المزيد من المقاتلين إلى ما يسمى بجبهة المقاومة، مثلما أدى اغتيال مغنية إلى ذلك. غير أن الأهم من جذب المقاتلين هو وجود قادة كمغنية في لبنان وسليماني في إيران وأبو مهدي المهندس في العراق. فحذف هؤلاء الثلاثة ليس مجرد حذف لأشخاصهم، بل هو قضاء على أشخاص كان لهم تأثير كبير في معادلات المنطقة”.
يتفق مشاركون في طاولة مستديرة لورشة لـ”معهد واشنطن” عُقدت في إبريل الماضي، على أن سليماني يعتبر رصيدا استراتيجيا ذا قيمة كبيرة للحكومة الإيرانية، بسبب سماته الفريدة المؤلفة من ثلاث خصائص: قريب من مرشد الثورة. مجازف وصاحب شخصية محبوبة. ملتزم ومتسق.
وحسب المشاركين في الورشة، كان خامنئي ينظر إلى سليماني باعتباره قدوة لمثال الجمهورية الإسلامية. وخلافا للمرؤوسين الآخرين، كان زعيم فيلق القدس السابق مطيعا للمرشد وفعالا إلى حد كبير. وقد تأثر خامنئي بالرؤية التي قدمها والمتمثلة بحركة شيعية مسلحة عابرة للحدود.
أدّت ميول سليماني في خوض المجازفات إلى تعزيز المصالح الإقليمية للنظام، كما يقول المشاركون في الورشة. فعلى سبيل المثال، كان القوة الدافعة وراء التحركات المبتكرة التالية: نشر قوات عسكرية تقليدية قوية لإنقاذ نظام بشار الأسد في سوريا، واستخدام جحافل شيعية من خارج المنطقة (أفغانستان، باكستان) للهدف نفسه، ومطالبة روسيا بالتدخل في حرب سوريا. وكان سليماني محبوبا بشكل خاص من قبل المقاتلين الأفغان الذين دعمهم في سنواته المبكرة، كما بنى قاعدة أتباع قوية بين العرب والباكستانيين. وعمل على رعاية علاقاته مع كبار أصحاب المصلحة في مختلف أنحاء أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا وغيرها من مناطق الصراع.
كان سليماني مخولا لقيادة نهج الحكومة الإيرانية بالكامل في التعامل مع التدخل الإقليمي، وذلك بمساعدة تقاربه مع خامنئي، وديناميته الشخصية، وأقدميته (في تاريخ الترقية) على قادة “الحرس الثوري” الإيراني الآخرين. وقال المشاركون في الورشة إن بروز قوة “الحرس الثوري” على مدار سنوات في المنطقة اعتمد على ركيزتين: الصواريخ، وسليماني الذي كان يُعتبر وجه القدرات الاستطلاعية ل”فيلق القدس”.
بحسب المشتركات التي أشارت إليها الورشة بشأن سليماني، يمكن القول إن فرضية تكرار نموذجه بعيدة المنال. فالخصائص الفردية التي كان يحملها والمهمات الاستراتيجية التي كان مضطلعا بها، من المستبعد توفرها في خليفته اسماعيل قاآني، لأنها تتعلق من ناحية بشخص سليماني نفسه، وتحتاج من ناحية ثانية إلى سنين طويلة من العمل المضني لبنائها. لذا قد يفكر المسؤولون الإيرانيون في طريقين: الأول هو السعي لإنتاج سليماني آخر حتى لو كان ذلك صعبا، لأن المهام التي كان زعيم فيلق القدس السابق يخطط لها وينفذها تُمثّل نهجا استراتيجيا لا يمكن لطهران أن تتراجع عنه في ظل النجاحات الإقليمية المتحققة، كما لا تستطيع أن تتجاهل تلك النجاحات إلا إذا كانت الضغوط السياسية والعسكرية التي تواجهها شبيهة بتلك التي أجبرتها على تجرع السم عام ١٩٨٨ وقبول وقف الحرب مع العراق.
الطريق الثاني هو قبول طهران بوجود مرحلة جديدة من التعاطي السياسي والعسكري مع العالم وبالأخص مع المنطقة، وتسمى بمرحلة ما بعد سليماني، والاقتناع بصعوبة استمرار النهج التوسعي السليماني السابق راهنا في ظل التطورات السياسية والعسكرية التي أفرزها الإنسحاب الأمريكي من الإتفاق النووي. وهذا يستدعي التركيز على فتح صفحة جديدة مع واشنطن تتوافق مع المكتسبات الإيرانية، السياسية والمالية، التي تحققت عام ٢٠١٥ بعد توقيع طهران للإتفاق النووي. فأي الطريقين ستختار طهران؟ أو أن هناك طريقا إيرانيا ثالثا قد يرى النور؟
في مقال له في الـ”نيويورك تايمز” تحت عنوان “قاسم سليماني.. ملك الحسابات الخاطئة”، يقول توماس فريدمان: “في عام ٢٠١٥، وافقت الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى على رفع جميع العقوبات المفروضة على إيران، والتي يعود الكثير منها إلى عام ١٩٧٩، في مقابل أن توقف إيران برنامجها النووي، على أن تحتفظ بحقها في بناء برنامج نووي سلمي. لقد كانت صفقة رائعة لإيران. وحقق اقتصادها نموا بنسبة ١٢ في المئة في العام التالي. فماذا فعل سليماني بهذا المكسب المفاجئ؟”.
يضيف فريدمان: “أطلق سليماني والمرشد الأعلى مشروعا امبرياليا إقليميا عدوانيا جعل من إيران ووكلائها، القوة المسيطرة الفعلية في بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء. هذا الأمر أزعج حلفاء الولايات المتحدة في العالم العربي وإسرائيل، فضغطوا على إدارة ترامب للرد. ترامب نفسه، كان يتوق لتمزيق أية معاهدة أبرمها الرئيس أوباما، لذا، انسحب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات نفطية على إيران، أدت الى انكماش اقتصادها بنسبة 10 في المئة تقريبا وارتفاع معدل البطالة الى 16 في المئة”. هذا الانكماش والتراجع أثناء فورة مشروع سليماني ونهجه التوسعي، يجعلنا نتساءل: هل يمكن لطهران، بعد فقدان سليماني، أن تفكر في مراجعة حساباتها السياسية الإقليمية، ومراجعة حساباتها الاقتصادية المتعلقة بالفترة السابقة، وأن تتبنى مرحلة جديدة تقوم على ما تم تحقيقه من مكاسب في ٢٠١٥ و٢٠١٦، أم أنها ستستمر في نهجها القديم الذي بات الاستمرار فيه صعبا ومكلفا؟..