اوجزت مصادر سياسية ما يجري في لبنان اليوم بالتناقض بين عقليتين، الاولى “رقمية، ديجيتال“، هي التي تحرك الثوار ، والثانية بدائية تعود الى ما قبل “اتفاق الطائف”، وهي التي تحرك اتصالات رئيس الجمهورية وفريقه لتكليف رئيس جديد للحكومة.
فالثوار وضعوا شروطهم، واعلنوا استنفارهم، حاملين هواتفهم، ومتمسكين بوسائل التواصل الاجتماعي ليوثقوا كل الانتهاكات التي تطالهم، مهددين باللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية، وسائر المحاكم المعنية بحقوق الانسان دولية كانت ام محلية! وهم رفضوا اي حكومة تقليدية، تشكل انعكاسا لموازين القوى التي افرزتها الانتخابات النيابية، وطالبوا مع سبق الاصرار ان تكون الحكومة المقبلة مؤلفة من اخصائيين، يعملون على انقاذ البلاد من ازماتها الاقتصادة وفساد مسؤوليها, رافضين في الوقت نفسه ان تضم الحكومة اي سياسي، وتحديدا من الذين تسببوا باندلاع الثورة، لاي فريق سياسي انتموا!
في المقابل، تعاطى القصر الرئاسي مع الثورة بعقلية “عونية” مخالفة للدستور اللبناني، بحيث امسك الرئيس عون بموعد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس للحكومة، يعمل هو نفسه على تشكيلها، بعد استشارات نيابية ملزمة ايضا. وتولى رئيس تياره وزير الخارجية في الحكومة المستقيلة جبران باسيل، الاتصالات من اجل الاتفاق على اسم رئيس الحكومة وصيغتها التكنو–سياسية، قبل تحديد موعد الاستشارات النيابية، في مصادرة لوظيفة الاستشارات النيابية التي حددها الدستور في اتفاق الطائف أولا، ومصادرة دور رئيس الحكومة المكلّف، واستشاراته النيابية الملزمة ايضا، من اجل تشكيل الحكومة، كما نص عليه الدستور.
سلوك عون وصهره، ينطلق من خلفية تقليدية، ترقى الى ما قبل اتفاق الطائف، حين كان رئيس الجمهورية يعين رئيس الحكومة والوزراء، ويقيلهم، بمرسوم رئاسي، وما يجري في بعبدا اليوم، هو التفاف على الدستور، لا يخدم سوى في إطالة امد الازمة الحكومية من دون طائل.
تزامنا، يستمر الثوار في تصعيد اعتراضهم السلمي على سلوك العهد، وهم قطعوا اوصال البلاد، في اعقاب الحديث المتلفز للرئيس عون، والذي اظهر خلاله حالة انكار لمجريات الثورة، مصرا على حكومة تكنو-سياسية، تعكس توازنات القوى السياسية في المجلس النيابي، غامزا من قناة التخلي عن تكليف رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري لتشكيل الحكومة الجديدة.
الاعتراض على حديث الرئيس عون، اخذ اوجهاً متعددة، حيث تتمسك الطائفة السنية عموما بإعادة تكليف الرئيس الحريري لتشكيل حكومة تكنوقراط تستجيب لمطالب الثوار، وبإطلاق يده في ورشة انقاذية مع فريق عمل متجانس، يعطي الثقة للثوار من جهة وللمجتمع الدولي والجهات المانحة من جهة ثانية.
مقابل ذلك، وقع التيار العوني في فخ ادبياته، التي دأب على تسويقها، خصوصا مفهوم “القوي” في طائفته، الذي يتولى المسؤولية الرسمية المناطة بهذذه الطائفة، وتاليا، ما يصح على وجود عون في رئاسة الجمهورية، ونبيه بري في رئاسة مجلس النواب، يعني حكما وجود الحريري، رئيس اكبر كتلة نيابية سنية، في موقع رئاسة الحكومة، وتاليا لا يمكن مساواة رئيس تيار سياسي كالوزير باسيل، برئيس الحكومة سعد الحريري، بل وجود الحريري في موقع رئاسة الحكومة مواز لوجود عون وبري كل في موقع رئاسته.
المعلومات تشير الى ان محاولات الوزير باسيل، البحث عن شخصيات سنية من صنف التكنوقراط، تبوء بالفشل تباعا.
الوزير السابق محمد الصفدي، توجه المتظاهرون إلى منزله في طرابلس لمطالبته بالإعتذار عن التكليف
فقد رفض، بعد قبول، كل من “وليد علم الدين”، و”عصام مكداشي”، تولي رئاسة الحكومة المقبلة، خلفا للحريري، في حين نفى “ناصر السعيدي” الموجود في هون كونغ ان يكون تلقى اي اتصال لتكليفه رئاسة الحكومة المقبلة، كما سرت شائعات ليل امس عن ان اتفاقا جرى على تسمية الوزير السابق “محمد الصفدي” لتشكيل الحكومة المقبلة ليشتعل الشارع من جديد وتتوجه تظاهرات الى منزله في طرابلس منددة بتسميته.
تضيف المعلومات ان كل من يقبل ترؤس الحكومة المقبلة، من الشخصيات التكنوقراط، يتراجع عن موافقته ويعيد الامور الى المربع الاول، اي الى تكليف الرئيس الحريري على رأس حكومة تكنوقراط، وهو ما يرفضه باسيل وحزب الله، في حين يبدو الحريري مسهّلاً لكل المحاولات الجارية لتشكيل الحكومة. ولكن ما من شخصية سنية يقبل بها الثوار، ابدت استعدادها للدخول في محرقة باسيل-حزب الله، ما يضع الثنائي باسيل–حزب الله امام خيار من اثنين: الاول، الاتجاه الى تشكيل حكومة من شخصية سنية من قوى 8 آذار، على غرار “عبد الرحيم مراد”، او “فيصل كرامي” او “اسامة سعد” الذي كان رفض مسبقا تكليفه تشكيل الحكومة، وهذا الامر دونه محاذير اثارة غضب الثوار واشعال البلاد المنهكة مرة جديدة، في تحركات لا تستطيع القوى الامنية التحكم بمسارها؛ والثاني، الرضوخ لشروط الرئيس الحريري، وتسليمه زمام تشكيل حكومة تكنوقراط واخصائيين.
تزامنا، اشارت معلومات الى ان الوزير جبران باسيل، ابلغ البطريرك الراعي في اللقاء الذي عقد بينهما امس عزوفه عن المشاركة في الحكومة المقبلة، كما عزوفه عن تسمية اي من الوزراء المسيحيين، في الحكومة، وانه ترك هذا الامر لما يُسمّى “الثنائي الشيعي”، حسب ما أشارت المعلومات.
موقف باسيل بعد شهر على انداع الثورة، في حال كان صادقا، يشكل بداية التراجع عن التمسك بتوزيره، بحجة ان خروجه من الحكومة شخصيا يعني إعدامه سياسيا، ويعني ايضا رمي الكرة في ملعب حزب الله والرئيس نبيه بري، ليتوليا الضغط على الرئيس الحريري لللقبول بتشكيل حكومة تكنوسياسية.