في إحدى الخيم التي نصبوها في الحديقة خلف تجمعهم، وجدت عددا من الناشطين المداومين هناك ليل نهار. قالوا لي إنهم بدأوا بالتظاهر منذ ما قبل شهرين، وهذا ما يرددونه في طرابلس، كانوا قلة وتأتي الأجهزة الأمنية فتقمعهم وتفرقهم. لكن تظاهراتهم لم تتوقف. ذات مرة تظاهروا بقرع الطناجر، وهي الخطوة التي انتقلت إلى بيروت لاحقا.
مساء الخميس في 17 أكتوبر عندما أعلن وزير الاتصالات في الحكومة المستقيلة ضريبة الـ 6 سنتات الشهيرة، نزلوا هم أنفسهم كعادتهم، لكنهم فوجئوا هذه المرة باستجابة المارة ودهشوا عندما أصبحوا أكثر من 400 شخص بلمح البصر.
قالت لي سيدة: “أصبح التشريج بـ 50 ألف ليرة بعد أن كان 38,5 ألف وهذا كثير جدا علينا”. ولقد أضيف عليها عبء 6 دولار. الغريب أن الوزارة تضع التعرفة الرسمية بالدولار! فرض المتظاهرون جعلها بالليرة دون ربطها بالدولار.
نظر إليّ أحد الفاعلين بينهم والعائد من ألمانيا لعدم تأقلمه هناك: “يقولون إننا نتمول من السفارات! نحن نجمع من جيوبنا ألف ليرة من كل واحد، ويكون مع واحدنا 5 آلاف (3 دولارات أو أقل مع انهيار سعر العملة)، تصوري رجالا مثلنا ليس في جيبهم أكثر من 5 آلاف! مع ذلك نجمع المال اللازم ونطبخ ونوزع الطعام. تهينهم بروباغندا تبعيتهم وتمويلهم من الخارج، وتتعمق الهوة. ثار الطلاب مؤخرا بعد اتهامهم بقبض 10 دولارات لكل واحد للنزول. من هم في السلطة يفترضون أن الناس تشبههم، مأجورة ومستفيدة.
المتجمعون هناك نصفهم عاطل عن العمل، البعض منذ ثلاث سنوات أو أكثر. سألت أحدهم كيف تعيش؟ “قال مع أهلي، وأخجل أن أعيش على كاهل والدي العامل في النجارة”. البعض الآخر يعمل ولكن بأجور منخفضة: “500 ألف ليرة شهريا (300 دولار أو أقل) دون أي ضمان أو تقديمات صحية واجتماعية. “أذلّونا” يقولون بغضب، “سرقونا وجعلونا نقف على أبوابهم نتسول، ونرتمي على أبواب المستشفيات والمدارس والضمان والوزارات، وإذا أردنا أن نتوظف يسألون عن طائفتنا وزعيمنا وليس عن حقنا بالعمل وكفاءتنا. أذلونا نريد استعادة كرامتنا”.
السيدة التي اضطرت لترك عملها فتفرغت لأولادها قالت لي: “هذا النائب الذي يذلّني أمام بابه ويهين كرامتي، ألا يعرف أن منصبه هو وظيفة أنا منحته إياها لخدمتي وليست حقا له كي يستفيد ويراكم الثروات”.
تعاين أمامك طفرة في الوعي انبثقت من تفشي القصور وسوء الإدارة ونهب المال العام والاحتقار الذي مارسه، ويمارسه، السياسيون عليهم وعلى حقوقهم.
تراكمت الشكاوى والتساؤلات والانتقادات، التي كانت كنداءات في الصحراء. لكنها فجأة سُمعت واكتست بالمعاني ووجدت لها اسما: ثورة.
كأنهم التقطوا شيئا كان موجودا في ما يشبه ما دون الوعي ولكنه في اقترابه الفجائي من الوعي تسبب بشرارة وها قد انبثق وعي جديد. فكرة قوية وانفعال قوي. وها هم يتجمعون معا ويشعرون بالقوة والتضامن. ينزلون رجالا ونساء، كبارا في السن وشبابا وأطفالا. الكثير الكثير من الشابات والشبان. يحملون أطفالهم مع غضبهم وآلامهم وعذاباتهم وكرامتهم المهانة في محاولة منهم للخروج من هذا القعر القاتم الذي أوصلوا أنفسهم إليه بخضوعهم طويلا لابتزازات وحيل الطبقة الحاكمة. يشجعون بعضهم بعضا وتختفي الحساسيات. وتولد منظومة قيم جديدة.
يعلّمون السلطة كيف تكون النظافة. فيكنسون ويجمعون كل يوم بقايا الليل. يعطون الدولة دروسا بيئية فيفرزون النفايات ويبيعونها ويشترون طعاما من المزارعين. جيل جديد نضج في غفلة عن الكبار وسبقهم. يعرف ما يريد، “نريد مدرسة رسمية بمستوى المدرسة الخاصة، لا نريد أن يدفع أهلنا الأقساط الخيالية كي نبقى دون عمل أو نهاجر، ونريد ونريد…”.
أكثر من عشرين يوما تكتظ بهم الساحات، صبايا وشباب دون حادثة تحرش واحدة أو عنف أو اعتداء أو سرقة.
إنها ثورة فاقت أحلامنا الأكثر تفاؤلا. رأينا فيها بروز الفرد المسؤول الحر من الولاءات العصبية والمذهبية والعائلية. يصرخ أحدهم: “كم واحد اسمه جورج؟” تتعالى الأصوات: “أنا أنا”. “كم واحد اسمه إيلي؟ كام واحد اسمه محمد؟ كام واحد اسمه علي؟” وتتعالى الأصوات “أنا أنا. شفتوا كلنا سوا”.
يهتفون: “القائد في غيره الوطن، ما في غيره. لن نعيد تجربة الأجيال السابقة كلن يعني كلن وزعيمك واحد منن”.
ثورة يحميها جيش الشعب في ظل علم واحد لونه أحمر وأبيض وتتوسطه شجرة؛ ربما هو الوحيد في العالم مع شجرة وكندا مع ورقة الأيرابل الشهيرة.
تمتلئ الساحات بأعداد من النساء تكاد تفوق أعداد الرجال. طفلات وصبايا وأمهات وجدّات، محجبات وسافرات، عاملات وربات بيوت. يغنين ويرقصن ويشعرن بالفرح. إنهن في عيد. والعيد، كالحرب والأزمة الاقتصادية تجعل المعادلات مختلفة وتتغير المفاهيم وتجعل من المرأة كائنا أقوى وأشد عودا. “إن التقدم في ميدان التفكير لا يحصل إلا في أوقات الأزمات الكبرى. خاصة عندما تهتز المؤسسات التقليدية أو تتغير لحصول حوادث تاريخية تساهم في قلبها على الأقل”، على رأي غاستون بوتول منظر الحرب.
حتى الأغاني القديمة اكتسبت معاني جديدة؛ واستعادت الأغاني التي كنا نتأفف منها مؤخرا:
تسلم يا عسكر لبنان
تعلى وتتعمر يا دار
وبحبك يا لبنان يا وطني
ويا حرية
حتى بعض أغاني جوليا (زوجة الوزير العوني إلياس بوصعب) مثل “أنا بتنفس حرية”، تغني مع بعض التجاذب الوجداني.
لكن أغنية مثل “بيكفي إنك لبناني” لعاصي الحلاني كانت ستثير الهزء على الأرجح قبل 17 أكتوبر، أثناء حالة الإحباط والقرف والاكتئاب السائدة حينها. لكنها الآن تملأ الساحات يرددونها بملء أفواههم وحناجرهم ويتلذذون بمعانيها.
“غطي الشمس بفيّ جبينك بحقّلك وطنك دينك لو هالدنيي سألت مينك قلن إنك لبناني.. بطل السلم وبطل الحرب همزة وصل الشرق وغرب تضل تحب وتنحب بيكفي إنك لبناني.. لبناني ومطرح ما تروح حامل وطنك قلب وروح”.
كذلك أغنية جوزف عطية، “لبنان رح يرجع” التي يقول فيها “لبنان رح يرجع والحق ما بيموت والشمس رح تطلع تزين سما بيروت.. من هون ما منفل حصرم بعين الكل بهالأرض بدنا نضل لو ضل خمس بيوت”. أو راغب علامة حين يغني “صار الوقت يا ناس تصرخ على العالي”، التي أرادوا منعها عندما نزلت الأسواق.
وبسرعة قياسية استولدت الثورة أغانيها:
علي العطار غنّى:
“قوم تحرك يا شعبي
غيّر هالحالة الصعبة
قوم تحرر ما تتأخر هيدي حقوقك مش لعبة
بدنا نبني دولتنا دولة تجسد وحدتنا \ تعرف قيمة قوتنا وآمال الشعب تلبي
بدنا دولة حكيمة تعمل لبلادها قيمة وتتطلع بهموم الناس ما تمشي عالتعليمة
دولتنا اللي منريدها بتملك قرارها بإيدها تحمينا بأيام الحرب ما تسحب منا إيدها”.
“يمن” الشعب اللبناني مقابل “يمن” نصرالله: الشعب يريد إسقاط النظام في صنعاء، في أبريل ٢٠١١
وأكثر الأغاني تعبيرا عن العلاقة بين الثوار ورجال السلطة أغنية كتبها شخص اسمه ابراهيم الأحمد، عبر فيها عن الحقوق المهدورة للشعب اللبناني، عنوانها “الشعب يريد إسقاط النظام“، يتحاور فيها مع مسؤول في السلطة والكورس يقول له، لا:
“أعطوني فرصة وبلا جرصة بس خلوني ضل.. طب شوفولي حل أعطوني مهلة صغيرة وسهلة بجيب الكهربا واللي خربها الله يوفقكن ما عاد أسرقكن.. أعطوني مدة بهيدي المدة بشيل الضرايب منبقى حبايب.. اعطوني شوي بجيب المي وبمنع الفساد وبلغي الاستبداد الله يوفقكن ما عاد أسرقن.. عندي خطة وما رح مطها بس وقفولي سب بجيب الواتساب.. أعطوني نتفة بخلي الكلفة أرخص من زمان يا شعب لبنان لله يوفقكن ما عاد أسرقكن.. أعطوني دقيقة وبلا نيقة صلح الأوضاع والحق اللي ضاع أعطوني وقت وهلق فقت بشيل النفايات بصلح الطرقات.. الله يوفقكن ما عاد أسرقكم.. أعطوني يوم بشيل هموم بظبط البلد بصدق بالوعد أعطوني لحظة ومنا مزحة برجع المسروق والوضع بروق… الله.. طب قولو شو بدكم:
بدنا يسقط الرئيس ومجلس النواب بدنا تسقط الحكومة تنبقى أحباب الشعب يريد إسقاط النظام”.
إنها ثورة لن تتوقف حتى تستكمل تحقيق ما خرجت لأجله: استعادة الحقوق كاملة، استعادة لبنان وطنا للجميع.
monafayad@hotmail.com