في كفتي الميزان هذه الايام قمع للاعلام وسَوْقٌ للمعترضين بالكلام على القرف السياسي السائد الى القضاء مقابل “إنشاء اكاديمية التلاقي والحوار في لبنان”. والكفتان لا يمكن أن تستويا. فأي حوارٍ وأي تلاقٍ حين يعتبر كل من في السلطة، أن ملاحقة الصحافيين والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي ومنع حفلات في وطن النجوم، لا يتناقض مع التلاقي والحوار.
كما أن منسوب جولات المعارك الكلامية التي لا سقف لبشاعتها وعنصريتها ومفاعيلها المتفشية وسع مساحات العالم الافتراضي، كفيل بإنشاء مصانع صواريخ دقيقة من الفتنة والكراهية والحقد. لو قيِّض لها الانتقال الى عالم الواقع لتسببت بإبادة اجتماعية وأخلاقية.
“أكاديمية للتلاقي والحوار” مقابل استغلال أصحاب الجشع للنفوذ والسلطة علم النفس والاجتماع لإرساء أرضية تَخاطُبٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي يتحكم فيها الأداء الطائفي الغرائزي، وتروى بذور الرعب الديموغرافي التي تبرر كل الجرائم اللفظية تحت عنوان “حماية الأقليات”، حيث البذاءة والوقاحة والأحقاد وإلغاء الآخر وخطابات القتل المعنوي.
فالحملات المنظمة للجيوش الالكترونية تتضمن سرديات مبتذلة مكشوفة ومفضوحة، وتعكس نوايا من يحرك الغرائز والمخاوف لدى أبناء الطوائف، وتترك رواسبها لتنبش تراكمات طالعة من قهر المواطن العاجز عن توفير أدنى مقومات العيش الكريم، في سعي لحرف هذا القهر عن مساره الطبيعي باتجاه محاسبة السلطة الفاشلة والفاسدة نحو الخوف من الآخر وتصويره وكأنه يسلبه هذه المقومات.
أي حوارٍ وأي تلاقٍ، حين تحتل مساحة الوطن موجات تسمح بالترددات الغرائزية من منطلق طائفي ومذهبي مخيف، وتخرج من عالمها الافتراضي الى صفوف الرأي العام، تحفزه وتقطع “شرش الحياء” الذي لطالما حمى الصيغة اللبنانية الهشة وصانها وحال دون الإعلان الرسمي عن موتها.
بالتأكيد، يحتاج الأمر الى تصويب. فما يجري على أرض الواقع يثبت، وبالوجه الشرعي لمسار الأمور، أن الباب اللبناني موصد في وجه أي انفتاح أو قبول بمن يعرقل مسيرة الطموح الشره، ذلك أن منافذ الانفتاح مقفلة حتى إشعار آخر.
والقابضون على السلطة بتفويض من الوصاية الإيرانية، تلقّوا تلقيحاً يمنحهم مناعة ضد الحوار وتقبّل الآخر، أياً يكن هذا الآخر، ما دام سيكشف عورات مَن يدّعي العفة السياسية ويتغنى بالسيادة والاستقلال والصمود والنضال ويستثمر في دم مَن صدّقوه واستشهدوا تلبية لطموحه، أو إذا كان هذا الآخر ممن يطالبون بحصة في وليمة الحكم السائب، شرط السكوت عن الوصاية، في حين يعتبر أصحاب الحظوة أنهم الأحق بها.
المفارقة فاقعة. المركز المأمول للتلاقي والحوار لا يمكن ان تقوم له قيامة في بلد يشهد فصولاً متلاحقة من قمع ليس فقط للحريات، وإنما لكل وسائل الحياة ابتداءً بالعدم الاقتصادي الذي أوصله الى الهاوية وليس انتهاءً بالتلوث البيئي والفكري والأخلاقي.
صدقاً… لا أقسم بهذا البلد، فكيف بأكاديمية لا أساس لها إلا الشعارات الجوفاء.