لكي تلعب برلين دور الوسيط في هذه اللحظة الحرجة، ينبغي عليها تحسين علاقتها مع الدول العربية في الخليج وخاصة مع الرياض، بعد اهتزازها بسبب الملف اليمني.
وجد الاتحاد الأوروبي نفسه بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني منذ انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران. واليوم تجد ألمانيا نفسها بين فكي كمّاشة التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة حليفتها الاستراتيجية الأولى وإيران شريكها التجاري المهم.
ويزداد حرج برلين بعد فشل المساعي الدبلوماسية والجدل حول تشكيل قوة حماية الملاحة في الخليج وعدم استبعاد سيناريو الاشتباك العسكري. حيال التطورات المتلاحقة يصح التساؤل عن فعالية الموقف الألماني المتمايز والمشاكس من ملف العلاقة مع طهران والقدرة على إحداث اختراق إيجابي لدبلوماسية حذرة في زمن البلبلة السياسية في برلين التي تستعد لطي صفحة أنجيلا ميركل.
وبرز في الآونة الأخيرة عناد ألماني وعدم رغبة في مجاراة واشنطن إذ أشار وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى أن بلاده لن تنضم إلى مهمة بحرية تقودها واشنطن في مضيق هرمز وأنها تريد تخفيف التوتر مع طهران وينبع ذلك من اقتناعها “أنه لا حل عسكريا للأزمة مع إيران”.
لكن ظهر بعض التباين في الموقف الرسمي الألماني حين أشارت وزيرة الدفاع إلى عدم اتخاذ قرار بعدُ بشأن طلب الولايات المتحدة رسميا من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا المشاركة في مهمة لتأمين المضيق الذي يمر منه نحو خمس إنتاج النفط العالمي.
ولا تخفي أوساط ألمانية خشيتها من نشوب حرب في الخليج والشرق الأوسط تأتي بتداعيات عالمية، وتتقاسم روسيا هذه المخاوف ووصل الأمر بماريا زاخاروفا الناطقة باسم وزارة الخارجية للقول إن “الأحداث تتحرك حقا نحو منعطف خطير، وهناك مخاطر من اندلاع اشتباك عسكري واسع النطاق”.
وبينما تتهم موسكو واشنطن بالاستعداد للمواجهة بالرغم من ارتباك إدارة دونالد ترامب وعدم وجود قرار بالحرب لديها، تعتقد أوساط أوروبية مستقلة أن تدحرج كرة النار وارد بين واشنطن وإيران.
لا يبدو كل ذلك كافيا لتبرير الموقف الألماني المتردد والحذر من دون الإحاطة بخلفية الصلات بين طهران وبرلين، إذ راهنت برلين تاريخيا على هذه العلاقة وزاد رهانها على توسيع الشراكة الاقتصادية منذ توقيع اتفاق 2015.
وفي هذا الصدد يجدر التذكير بمحاولة البعض في ألمانيا وإيران التذكير بالانتماء المشترك للعرق الآري كمبرر لعلاقة مميزة. وفي الفترة الأخيرة لفت النظر أن بعض فئات اليمين المتطرف استندت إلى مقولات نازية للترويج بوجود إرث ثقافي مشترك بين إيران وألمانيا، وبالفعل رأت ألمانيا النازية في هذه النظرية وسيلة لكسب ولاء إيران إلى معسكرها ضد روسيا وبريطانيا وذلك تحت حجة القرابة بين ألمانيا والإيرانيين.
لذلك كانت سياسة الشاه رضا الموالية لدول المحور خلال الحرب العالمية الثانية من الأسباب التي أدّت إلى تعرّض البلاد للاحتلال من قبل الروس والبريطانيين. لكن ذلك لم يمنع ألمانيا الغربية لاحقا من أن تكون على مدى عقود عدة، الدولة الرئيسية الداعمة لإيران، وشريكها التجاري الأول. وكان وزير الخارجية الأسبق هانز ديتريش – غينشر أول وزير خارجية غربي يزور طهران في 1984، ولعبت ألمانيا الموحدة دورا كبيرا في إنجاز صفقة الاتفاق النووي وكانت الداعم الأساسي لتوجهات وزيرة الخارجية الأوروبية فريديريكا موغريني.
على الصعيد الاقتصادي راهنت ألمانيا التي تميزت بزحف قوتها الناعمة تجاريا وصناعيا وعلميا على تطوير العلاقة مع طهران بعد الاتفاق النووي، ولكن أخذ الرهان يتضاءل لأن السوق الإيرانية محدودة الحجم وفق معايير برلين (نحو 400 مليار دولار) وصعبة الاختراق بسبب سيطرة الدولة.
أما التجارة فبقيت محدودة وأخذت تقوضها عقوبات واشنطن حيث تشير غرفة التجارة الألمانية إلى أن صادرات ألمانيا إلى إيران لم تتجاوز 525 مليون دولار خلال الفترة بين يناير وأبريل 2019، أما صادرات إيران إلى ألمانيا، التي لم تتجاوز 92 مليون دولار، فهي لا تكاد تُذكر. ولذلك لم يبق من الشركات الألمانية العاملة في إيران سوى نحو 60 شركة.
في المقابل، تبلغ صادرات ألمانيا إلى دول مجلس التعاون الخليجي (التي تصل سوقه إلى 8.1 تريليون دولار) نحو 23 مليار دولار، أو 50 ضعف صادراتها إلى إيران.
حسب لغة الأرقام التي تتقنها برلين، لا بد لها من مراجعة حساباتها وإعادة صياغة سياساتها وعدم النظرة إلى الأمور من زاوية التنافسية الاقتصادية مع الحليف الأميركي بل أيضا من خلال الأضرار بسبب التوتر في الخليج وإفرازات التدخل الإيراني الذي يزيد من تفاقم أزمة اللاجئين وخطر الإرهاب مع الانعكاسات على الداخل الألماني وأوروبا بسبب الصعود الشعبوي واليميني المتشدد.
تفكر مراكز صنع القرار قي برلين بأهمية لعب دور الوسيط في اللحظة الحرجة لأنها تعتقد أن ازدحام السفن العسكرية في الخليج يمكن أن يزيد احتمالات حدوث خطأ في الحسابات العسكرية، وبالتالي نشوب مواجهة مسلّحة في المنطقة. وهنا تبرز الرغبة الألمانية في لعب دور الوسيط في أزمة إيران مع جيرانها ومع الولايات المتحدة. لكن لكي تلعب برلين هذا الدور ينبغي عليها تحسين علاقتها مع الدول العربية في الخليج وخاصة مع الرياض بعد اهتزازها بسبب الملف اليمني.
يعتبر الملف الإيراني مفصليا في تحديد مسارات العلاقات الدولية خلال الفترة القادمة ولذلك يأخذ الموقف الألماني في الحسبان الارتباك الأميركي وربما تحاول برلين من خلال الموقف الوسطي والمشاكس أن تبعث برسائل مستقبلية إلى الصين وروسيا متناسية بعدها الأطلسي والكسوف الأوروبي في سياق إعادة تشكيل النظام الدولي.