بعدما أوقفه الجندي، في أحد شوارع الخرطوم، وفتّش سيارته، سحب سكينه، وأمسكه من شعره كمن يريد ذبحه، قائلاً: “السودان لنا.. نحن مَنْ يملك البلد“. هذا ما رواه مواطن سوداني لمراسل صحيفة بريطانية هناك. وقعت الحادثة، على الأرجح، بعد الهجوم الذي شنه المجلس العسكري الانتقالي على المطالبين بحكومة مدنية، في الثالث من يونيو (حزيران) الجاري، وأسفر عن مقتل 113 من المواطنين، علاوة على جرح المئات، وترويع الآلاف.
لن يتكلّم أحد من الزمرة العسكرية الحاكمة، في الخرطوم، على طريقة الجندي، الذي يأتمر بأوامرهم، ويتصرّف كقاطع طريق. ولكن، يصعب على أحد منهم، بالتأكيد، التفكير بطريقة مغايرة. فالسودان لهم، وهم مِنْ يملك هذا البلد، منذ أوّل محاولة ناجحة للاستيلاء عليه في العام 1958، أي بعد استقلاله بعامين، وعلى مدار اثنين وستين عاماً، مما تعدون، قاموا بعشر محاولات انقلابية، ونجحوا في أربع حالات جاءت آخرها قبل ثلاثين عاماً بالبشير والإخوان.
أتأمل حكاية الجندي قاطع الطريق، وعبوس بن عوف، وابتسامات البرهان، الذي تلاه في رئاسة المجلس العسكري، والكلام غير المفهوم، لا لغةً ولا سياسةً، لشخص عجيب اسمه “حميدتي”، وفي الذهن تداعيات ما كتبه المؤرخ الفرنسي، جان بيير فيليو، في كتاب بعنوان “من الدولة العميقة إلى الدولة الإسلامية: ثورة العرب المضادة وتركتها الجهادية” (2015).
لدىّ تحفّظات كثيرة، لا على ما جاء في الفرضية الرئيسة، بل على ما وسمها من فجوات كثيرة تبدو فادحة. ومع ذلك، قوام الفرضية، التي لا يتسع المجال للدخول في تفاصيلها، أن تدخّل الجيوش العربية في السياسة، في النصف الثاني من القرن العشرين، أفرز أنظمة مملوكية. وفي هذا الصدد، استخدم مصر وسورية والجزائر واليمن كوسائل إيضاح، بينما صنّف تونس بن علي بالدولة البوليسية، وعراق صدّام، وليبيا القذافي، بالدولة الشمولية.
والخلاصة أن الحاكم المملوكي، كما يُقال بالإنكليزية هو “الأوّل بين متساوين“، يتربع على سدة الحكم بعد الاستيلاء عليه بالتعاون مع بقية “الزملاء“، ليصبح مصيره ومصيرهم واحداً، وليشكّلوا معاً النخبة “التي تملك البلد“، والتي تشهد عمليات إقصاء وانتخاب، يخرج واحد أو أكثر ويدخل واحد أو أكثر، ولكنها تدافع مجتمعة عن مصالحها، وإذا ضعف الرجل الأوّل، أو جابه مشاكل تُهدد النخبة نفسها، لا تجد هذه بداً من التضحية بكبيرها، وتمكين أحد أعضائها، وغالباً بعد حسابات وتسويات وصراعات داخلية مُعقدة، من الحلول محله.
من غير الواضح لماذا سقط نظام الحكم في السودان من قائمة وسائل الإيضاح، التي استخدمها فيليو للتدليل على فرضيته الرئيسة. ولكن من الواضح أن نظام البشير، الذي خلعه “الزملاء” في الآونة الأخيرة، يتجلى كنموذج حي في حالة سيولة لم تستقر على حال بعد، ولكن فيها كل خصائص النظام المملوكي، وآليات انتقال السلطة فيه.
وفي مشهد لم تتضح نهايته بعد، فلنفكّر في أشياء من نوع: بعد خَلعِهِ على يد “الزملاء” بساعات قليلة أصبح البشير، وبموافقة منهم، لصّاً عثروا في بيته على الملايين، وشخصية فاسدة ومُجرمة تستحق السجن، ولكن الشخص نفسه كان قبل سقوطه بساعات، أيضاً، حاكماً مُطلق الصلاحية يحظى باحترام وطاعة “الزملاء“.
ولنفكر في أشياء من نوع استحالة أن يتمكن أحد من “الزملاء” من الوصول إلى مرتبة عليا في الجيش، وأجهزة الأمن، وبيروقراطية الدولة، دون موافقة منه، ودون طاعة وولاء منهم، أي دون أن يكون التابع من صنع المتبوع وعلى صورته.
كان البشير مُغتصباً للسلطة أطاح، بالتآمر مع الترابي و”الإخوان” بسلطة مدنية. نكّل بالشعب، وأفقره، ومكّن “زملاءه” المماليك من الاستيلاء على خيرات البلد، وكلّف مخبرين، ومرتزقة، ونصّابين، وعديمي خبرة، بإدارة شؤونها. فأضاع الجنوب، وشكر الله، في تصريح لافت، لأنه سيتمكّن، أخيراً، بعد انفصال الجنوب من “تطبيق الشريعة“. وفي يوم الإطاحة به، أطل علينا شخص عابس الوجه، مقطب الجبين، لا يجيد القراءة، ولا قواعد النحو، ولا يعتقد أن الحرية، والديمقراطية، كلمات ذات صلة في معرض الكلام عن “زميل” اسمه البشير، كان سيّده قبل قليل، ولكن ضغط الشارع أرغمه على وضعه في السجن.
بيد أن دراما لعبة البحث عن “أوّل بين متساوين“، بعد شغور المنصب، تُنجب شخصاً غريباً وعجيباً اسمه “حميدتي” بطريقة تتجاوز حتى المسلسلات التركية. المذكور جنرال شبه أمي، لم يحصل على تعليم يُذكر، ولم يدخل كلية حربيّة، بل كان على رأس ميليشيا اسمها “الجنجويد”، ارتكبت جرائم حرب في دارفور.
وحتى هذا “الشرف” هناك من ينازعه عليه. ففي تقارير غربية نقلت عن مسؤولين سابقين في أجهزة الأمن السودانية: اشتغل المذكور في التهريب وتجارة الجمال، وأنشأ صلات تجارية مع متمردي دارفور فاعتُقل، ولكنه أبدى صلابة في التحقيق، إلى حد أقنع مُعتقِلِيه بتجنيده للعمل معهم، ويبدو أنه أبلى بلاءً حسناً في دارفور، أي قتلَ ونهب واغتصب، وكافأه البشير برتبة جنرال، وقيادة ميليشيا “الجنجويد”. أصبح اسمها “قوّات الدعم السريع”، التي تقتل السودانيين الآن.
مَنْ سيحكم السودان؟ لا أحد يعرف، ولكن على صاحب الحظ السعيد إثبات أنه وبقية “الزملاء” مُلاّك البلد وأصحابها، مع كل ما في أمر كهذا من تصفية للمعارضة، ورسو العطاء على الأكثر براعة. وما لم ينجح السودانيون في تحرير بلادهم من مالكيها، لا تقل حظوظ “حميدتي” عن غيره، وقد يصبح يوماً ما رئيساً تقياً ونقياً لا ينام الليل في خدمة البلد والشريعة، ثم إن لم يخلعه الموت سيخلعه رئيس جديد تقي ونقي لا ينام الليل.. الخ. وهكذا دواليك.
عيب المسلسلات التركية أنها مملة وطويلة. والفرق أننا نستطيع النجاة منها، على شاشة التلفزيون، بكبسة زر. ولكن أحداً لا ينجو من رصاص “الجنجويد”، في الواقع، إذا شق عصا الطاعة، ونازع المملوك الجديد وبقية “الزملاء” من أعلى رتبة، وحتى أصغر جندي وقاطع طريق في الشارع، على ملكية البلد.
khaderhas1@hotmail.com