المشهد السياسي في تايلاند يبدو للمراقب غامضا، بل ينذر بقلاقل مشابهة لما حدث منذ سنوات قريبة حينما انقسم المجتمع إلى فريقين دخلا في صدامات شارعية: فريق مؤيد لرئيس الوزراء الأسبق “تاكسين شيناواترا”، ميز نفسه باللون الأحمر، وفريق مؤيد للجيش على اعتبار أن الأخير هو الضامن للأستقرار والحامي للملكية الدستورية وقد ميز نفسه باللون الأصفر.
وبعبارة أخرى، لم تعد هذه البلاد التي كان يُضرب بها المثل في الاستقرار والحياة السهلة الممتعة كذلك، ولم يعد نظامها الملكي الدستوري قادرا على ضبط الأمور وإرجاع الجيش إلى ثكناته بتلميحة من الملك على نحو ما حدث مرارا وتكرا طوال سنوات حكم العاهل السابق “بهوميبول أدونياديت” الطويلة.
صحيح أن الملك الجديد “ماها فجيرالوكورن” توّج رسميا على عرش البلاد في مطلع شهر مايو المنصرم بعد سنتين من وفاة والده، وصحيح أنه انتزع صلاحية تعيين سائر أعضاء اللجنة المشرفة على ممتلكات العرش الضخمة، وصحيح أن المجلس العسكري الحاكم منذ 2014 بقيادة رئيس الوزراء الجنرال “برايات شان أوشا” أوفى بوعده بإجراء إنتخابات عامة في مارس الفائت من بعد أن أجلها مرارا بحجج مختلفة، لكن الصحيح أيضا أن نتائج هذ الانتخابات لم تسفر عن إيجاد حل للصراع السياسي الدائر، كي لا نقول أنها ستوتره أكثر بسبب حلول حزب “بيلانغ براشات” المقرب من المجلس العسكري بالمركز الأول، وحلول حزب المعارضة الرئيسي “بويا تاي” (من أجل التايلانديين) في المركز الثاني مع اتهامه العسكر بتزوير نحو مليوني صوت.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية التي قد تعيد البلاد إلى المربع الأول. فقد قيل أن الحزب الأول المحتمي بالجيش من المستبعد أن يرضى بالدخول في تحالف مع الحزب الثاني لتشكيل حكومة تعيد الإستقرار للبلاد بسبب العداوة المريرة بينهما، خصوصا وأن الحزب الأخير يتزعمه شيناواترا الملاحق قضائيا والمقيم خارج تايلاند منذ إطاحة الجيش بحكومته المنتخبة سنة 2006، ثم الإطاحة بحكومة شقيقته “ينغلوك شيناواترا” سنة 2014 على خلفية مزاعم بالفساد. ولذا كان المحتمل أن يلعب حزب “Future Forward” بزعامة المليادير الأربعيني “تاناترون جوانغرونغراونكيت” الذي حل بالمركز الثالث بفضل أصوات الشبيبة دورا في عقد تحالفات وائتلافات تنضم إليها الأحزاب الصغيرة التي شاركت في الإنتخابات وفازت ببعض المقاعد
غير أنه حتى مع افتراض تحالف حزب “بويا تاي” مع كل أو بعض تلك الأحزاب لتشكيل حكومة جديدة، فقد قيل أنه من المحال حصولهما على الأغلبية التي تسمح لهما بالحكم شراكة في البرلمان المكون من 500 مقعد في ظل النفوذ الطاغي للعسكر الذي يملك وحده صلاحية تعيين أعضاء مجلس الشيوخ البالغ عددهم 250 عضوا، وهي صلاحية منحها الجيش لنفسه حينما اعتمد دستورا جديدا سنة 2016، ناهيك عن أمرين آخرين أولهما ضرورة تسمية رئيس الوزراء من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ معا، وثانيهما إستحالة أن يقبل الملك الجديد التصديق على حكومة يشارك في صنعها شيناواترا، خصوصا بعدما جرده من كافة أوسمته الملكية بحجة أنه هارب ومدان من قبل المحكمة العليا.
وللخروج من هذا المأزق، وكي يبعد عن نفسه مزاعم مناهضته للملكية والعرش، إقترح الثعلب شيناواترا (رئيس الوزراء التايلاندي الوحيد الذي أكمل فترة ولايته وأعيد انتخابه وحظي بشعبية كبيرة في أوساط الفلاحين والفقراء خارج الحواضر والمدن الرئيسية) أن تتولى الشقيقة الكبرى للملك الأميرة “أوبولراتانا” (67 عاما) رئاسة الحكومة بدلا من رئيس المجلس العسكري الذي قدم ترشيحه بالفعل مستفيدا من نتائج انتخابات مارس، علما بأن الأميرة المذكورة لم يسبق لها أي إهتمام بالسياسة وانحصرت إهتماماتها بالغناء والسينما والرياضة، كما أن الأميرة، المولودة في لوزان بسويسرا، تخلت عن لقبها الملكي في مطلع السبعينات كي تتزوج من أمريكي طلقته في عام 1998 ثم سُــمح لها بالعودة إلى بلادها في عام 2001. لكن اقتراح شيناواترا هذا، الذي أحدث زلزالا في الأوساط التايلاندية لأنه لم يسبق أن ترشح أي من أفراد الأسرة المالكة لقيادة الحكومة منذ تأسيس الملكية الدستورية عام 1932، اصطدم بمعارضة الملك الذي وجد الأمر منافيا لروح الملكية الدستورية. ولم يُعرف ردود فعل التايلانديين على هذا الاقتراح المثير لأن القانون الساري يجرّم من يتناول شؤون العائلة المالكة أو ينتقدها.
وهكذا سقط في مطلع يونيو الجاري اقتراح تولى الأميرة “أوبولراتانا” قيادة الحكومة، لصالح الجنرال “برايات شان أوشا” الذي إستفاد من دعم أعضاء مجلس الشيوخ له، رغم عدم نيله دعم غالبية أعضاء مجلس النواب المنتخبين.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين