فرحيل هذا الكبير يكشف افلاس لبنان من قامات يمكن ان يستند اليها من يسعى الى دولة يشعر فيها باحترام ذاته، فلا يقرضه القهر والخوف، تماماً كما تقرض الجرذان، اذا ما تسللت الى بيته، كل ما فيه. ويكشف ان الإفلاس لا يعالَج بكل هذه الإجراءات الترقيعية، وتجاهل واجب التسديد مباشرة على العلة الفعلية الكامنة في إنكار التواطؤ مع من يصادر السيادة ويغتال الاقتصاد ويُطبِق على القرار الحر فلا ينفع أي ادعاء بالإصلاح والإنقاذ والتغيير ومعزوفة شطف الدرج من فوق او تحت.
نحن حين نرثي هذا البطريرك الذي تجاوز المنصب والرتبة الى سدرة المنتهى للمواقف الوطنية. نشعر بفداحة ما ابتلينا فيه لأن البلاد فرغت ليحتلها مسؤولون لا يستحون ولا يخافون المساءلة. يستغلون السلطة ومرافق الدولة ومؤسساتها ليفحشوا. ينقلبون على مواقفهم وينكرون ما ارتكبوه ويرمونه في وجوهنا ويسكتون عن اغتصاب الوطن.
حين نرثيه نجلد أنفسنا لأننا نحن الذين بلينا أنفسنا بهؤلاء، ولم نملك الجرأة والرؤية لنرميهم خارج صناديق الاقتراع عقاباً لهم على ما ارتكبوه، على الرغم من معرفتنا المسبقة بما سيرتكبون.
مع رحيل صفير، نشعر بما هو أكثر من صفعة تبرم لنا رؤوسنا، تخلع رقابنا، تذكّرنا بأن من بقوا لا يجدون غضاضة في تعبيد طريق قصر المهاجرين. فهم يعرفون أين يقع ويستعجلون سراً وعلانية التبرك بغباره، ما دام سلوكه يقود الى حيث الطموح المريض للسلطة والنفوذ.
منذ اعتكافه عن قيادة البطريريكية المارونية وشؤونها، وهم يهللون ويعيثون في الدولة فساداً ويسقطون قناعاً تلو الآخر من الأقنعة التي كانوا يستخدمونها غب الطلب بغية اللعب على الاوتار الغرائزية للمذهبية المتطرفة التي تعزل كل جماعة عن غيرها على مساحة هذا اللبنان.
كم كان يحرجهم ويربكهم وجود هذا البطريرك الصافي من الغايات الشخصية والغرض المقيت. فما قاله على امتداد مسيرته في أصعب ظروف الوطن وحروبه القذرة، لم يكن مطلقاً الا وليد اقتناع وإيمان بأن الوطن ليس جورباً، والحرية لا يمكن ان تكون رهينة اجتزاء ومساومة تجارة للمناصب في السوق السوداء للكيان اللبناني.
كلماته كانت مطلقة ومجردة وطاهرة من التأويل، تماماً كما يجب ان تكون. وهذا ما يوجع فيها.
الحرية والسيادة والاستقلال من دون مناورة او استغلال. هذا ما أراده وهذا ما دعمه، أصاب أم أخطأ. فهو كان يسير على هدى ضوء داخلي يكفيه ليرى ويقول ويتمسك بأقواله، ويكشف عوراتهم بما قال.
“الأوطان لا تُحمَل في الجيوب، ومن حمل وطنه في جيبه لا وطن له. اما من حمل وطنه في قلبه وإرادته، فوطنه مهما توالت عليه الويلات فإنه حيّ“. وكأنه كان يلعن من لا يفكر الا بجيوبه التي يجب ان يملأها الوطن من خيراته، ثم يدّعي التضحية في سبيل مصدر رزق هذه الجيوب.
“جيشنا يكفينا”، قال صفير. وغيره يقول ان الجيش عاجز عن حماية حدودنا، لذا لا بد من جيش غير شرعي، ومع هذا يرثيه بعبارات مستقاة من قاموس الاستهلاك اليومي.
لو يصمت أصحاب الجيوب المسارعون الى رثاء هذا الرجل الذي دفع ثمن مواقفه بفرح وقوة تفتقر اليها القامات الهزيلة التي تدّعي القوة وتستعير قوة قمصان سود ومحور إقليمي لا همّ له الا تخريب المنطقة لتنفيذ مخطط شيطاني توسعي، ما دام بيع الذات وبيع الوطن الى هذا المحور يقود الى قصر، حتى لو استدعى الأمر تعويم قصر المهاجرين ومن فيه في معادلة لا تمت الى الحرية والسيادة والاستقلال بأي علاقة عضوية.
لو يصمت من ليس على مستوى قول بطريرك الوطن: “لسنا بقوم ينوحون ويبكون على الأطلال. نحن قوم أحببنا الحرية، ومن دون الحرية لا يمكننا أن نعيش، نقولها بصراحة. لكن هذا لا يعني أننا لا نحب الاعتدال. نحن نكره التهور. وفي القضايا الوطنية يجب أن يكون هناك تعقل، يجب أن يكون هناك تبصر، ويجب أن نعرف أين نحن ذاهبون”.
فلنصمت ونترحم على أنفسنا. فنحن ندفع ثمن الصمت عندما كان وحده الناطق بالحق.
sanaa.aljack@gmail.com