تتراوح ردود الفعل الإيرانية إزاء الضغوط، إذ لا تصعد مع باكستان بالرغم من تكرار العمليات على الحدود المشتركة، بينما تعمل بقوة على إحراز الغلبة في العراق في التنافس مع واشنطن على النفوذ.
الفترة الممتدة من مايو الحالي، موعد تشديد العقوبات على إيران، إلى يونيو 2020 موعد بدء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستكون فترة حساسة ودقيقة ستحاول فيها طهران الاكتفاء بحرائق إقليمية تحت السيطرة مع استبعاد نزاع واسع.
تختتم الأزمة السورية عامها الثامن مع الحروب التي تتخللها في سياق “اللعبة الكبرى الجديدة” للقرن الحادي والعشرين التي انطلقت من بلاد الشام ولا تزال مستمرة بتشعّباتها التي تطال مجمل الإقليم. ولا يمثل الانتهاء الوشيك لتمركز دولة “داعش” على أرض “الخلافة المزعومة” نهاية ما يسمى “الإرهاب” أو بدايات الخلاص في شرق تلاحقه لعنة الأزمات والنزاعات والحروب بالوكالة، بل إن الشهور القادمة يمكن أن تحمل في طياتها احتمال حرب إقليمية مع انعكاسات تصعيد العقوبات الأميركية على إيران وردود طهران عليها وكذلك ما يدور حول إسرائيل وقرارها بمواجهة الوجود العسكري الإيراني في سوريا وحزب الله.
من الناحية النظرية هناك من يدق نواقيس الحرب في أكثر من مكان، لكن من الناحية العملية يبرز الحذر من الذهاب بعيدا في مواجهة نعلم متى تبدأ ولا نعلم كيف ومتى تنتهي؟
يتوافق الكثير من المعنيين بشؤون الخليج والشرق الأوسط على أن الفترة الممتدة من مايو الحالي، موعد تشديد العقوبات على إيران، إلى يونيو 2020 موعد بدء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستكون فترة حساسة ودقيقة ستحاول فيها طهران الاكتفاء بحرائق إقليمية تحت السيطرة مع استبعاد نزاع واسع لأنها تراهن ضمنا على عدم استمرارية الرئيس دونالد ترامب وإعادة الوصل مع واشنطن.
من جهتها، إسرائيل المنهمكة في حملتها الانتخابية ستحاول على الأرجح مع بنيامين نتانياهو أو مع بيني غانتس، الاشتراك في إعادة تركيب الخارطة السورية وتحجيم حزب الله أو القيام بحرب محدودة لتنفيذ هذه الأهداف. وإذا تابعنا الحراك السعودي من حرب اليمن إلى العراق والمشرق نجد الرياض معنية بتركيب إطار استراتيجي لا يهمّش الوزن العربي في الإقليم. هكذا توجد مروحة احتمالات لتنظيم المواجهات والتقاطعات لا يغيب عنها بالطبع لاعبون دوليون مؤثرون مثل روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ولاعبون إقليميون مثل تركيا وباكستان ومصر والعراق والأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر.
في إطار الاحتقان الإقليمي، تزامن عن قصد أو بالصدفة في يوم 14 مارس الحالي، حدثان لافتان: دعوة المرشد الإيراني السيد علي خامنئي للتعبئة القصوى لجميع الإمكانيات والطاقات والقوى لإلحاق أكبر هزيمة بأميركا في تاريخها، ووصول صواريخ انطلقت من قطاع غزة إلى تل أبيب والغارات الإسرائيلية التي أعقبت ذلك.
والملاحظ أن كلام خامنئي كان بحضور رئيس وأعضاء مجلس خبراء القيادة الذي يقرر مصير خلافة المرشد في إيران. وجاء بعد خطوات متشددة في مواكبة المرحلة الحرجة التي تعيشها إيران مثل تقليد قائد فيلق “القدس” للحرس الثوري، اللواء قاسم سليماني، وسام “ذو الفقار” والذي يعد أعلى وسام عسكري في إيران، مما يعزز موقعه في محيط المرشد وضمن المشهد الإيراني.
أتى ذلك بعد خطوة استقالة وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي تجرأ على هذه السابقة الاعتراضية من ناحية الشكل والبروتوكول (تغييبه وعدم إعلامه بزيارة الرئيس السوري التي رتبها قائد فيلق القدس) والتي قام الرئيس حسن روحاني باحتوائها ورفضها لأن القيادة الإيرانية بحاجة في هذا الوقت الصعب للثنائي روحاني – ظريف لإبقاء خيوط الحوار مع أوروبا.
بيد أنه في هذه الأثناء قام خامنئي في الأسبوع الماضي بتعيين آية الله إبراهيم رئيسي رئيسا للسلطة القضائية في إيران. وكان رئيسي مرشحا متشددا منافسا لروحاني في الانتخابات الرئاسية سنة 2017. وكان قد جرى انتخابه نائبا لرئيس مجلس الخبراء المسؤول عن اختيار المرشد الأعلى. ومع هذا التعيين يتم استكمال تركيبة الحلقة الأولى من دائرة الحكم، إذ يجدر التذكير بأنه في أواخر يناير الماضي، عيّن خامنئي الرئيس السابق للسلطة القضائية صادق لاريجاني، وهو شقيق رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، رئيسا لمجمع تشخيص مصلحة النظام بعد وفاة آية الله الشاهرودي (الذي كان أبرز الخلفاء المنتظرين لخامنئي).
هكذا في ظل واجهة انفتاح شكلي للثنائي روحاني – ظريف، يتم إحكام القبضة نتيجة التدهور في الوضع الداخلي على أبواب العام الإيراني الجديد (1398 حسب التقويم الهجري الشمسي) مع تراكم المؤشرات التشاؤمية عن غليان داخلي متصاعد منذ أواخر 2017 ومعالم انهيار اقتصادي سيزداد حدة إذا نجحت واشنطن في مسعاها لتحديد سقف تصدير الخام بمليون برميل يوميا بعد الخامس من مايو القادم. في هذا المجال يتباهى براين هوك، الممثل الخاص لوزارة الخارجية الأميركية بشأن إيران، بأن “طهران خسرت 10 مليارات دولار من العائدات منذ العقوبات الأميركية في نوفمبر 2018 وذلك بعد إزالة حوالي 1.5 مليون برميل يوميا من الخام الإيراني من الأسواق العالمية”. ترافق ذلك مع إعادة فرض جميع العقوبات الأميركية التي كانت مفروضة قبل الاتفاق النووي، وإضافة أكثر من 700 من الأفراد والكيانات والطائرات والسفن إلى قائمة العقوبات واستهداف 70 مؤسسة مالية وفرعية مرتبطة بإيران. مما “يرفع العدد الإجمالي للعقوبات المرتبطة بإيران التي فرضتها إدارة ترامب إلى 927 كيانا، من الأفراد والسفن والطائرات”.
إزاء ما يقال إنه الحد الأقصى الأميركي في استخدام سلاح العقوبات، تغمز بعض المصادر الإيرانية المعارضة من قناة واشنطن وتطالبها بوضع قوات الحرس الثوري ووزارة المخابرات على قوائم الإرهاب (الاتحاد الأوروبي استهدف بعض مسؤولي وزارة المخابرات بعد الاتهامات باعتداءات إرهابية على الأراضي الأوروبية). لكن يبدو واضحا أن المؤسسات في واشنطن لا ترغب في شدّ الخناق أكثر على طهران والحفاظ على إمكانية استعادة التفاوض علما وأن الفشل مع كوريا الشمالية يبدّد هذه الإمكانية.
إزاء التصعيد الأميركي والتحرك الإسرائيلي النشط مع روسيا والإجراءات الأوروبية الخجولة للالتفاف على العقوبات الأميركية والحفاظ على تبادل تجاري محدود مع طهران، حدد المرشد علي خامنئي خارطة الطريق قائلا “إن العدو يعني أميركا والصهاينة قد عبّأوا اليوم كل إمكانياتهم وطاقاتهم ضد الشعب الإيراني”، وإن “الغربيين والأوروبيين يعادون إيران على هامشهم بصورة ما”.
من دون شك فإن السعي إلى “تحييد” الأوروبيين وضمان تفهم روسيا والصين يدخل ضمن التكتيك، لأن طهران رفضت الطلبات الأوروبية بالتفاوض حول برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية أو الانخراط في أزمات الإقليم. أما بالنسبة إلى روسيا، فبالرغم من تقاطع المصالح في أكثر من ساحة تراجعت إيران عن الاتفاقية حول بحر قزوين ولم تصادق عليها، تماما كما رفضت التصديق على قانون دولي لمكافحة تبييض الأموال ودعم الإرهاب مما يدلل على الوجه الحقيقي للسياسة الخارجية الإيرانية.
تتراوح ردود الفعل الإيرانية إزاء الضغوط، إذ لا تصعد مع باكستان بالرغم من تكرار العمليات على الحدود المشتركة، بينما تعمل بقوة على إحراز الغلبة في العراق في التنافس مع واشنطن على النفوذ، وبدا من خلال زيارة الرئيس حسن روحاني الأخيرة الإصرار على أن يكون العراق الامتداد والمتنفس لمواجهة العقوبات. وبالطبع لا يقتصر الانخراط الإيراني على تعزيز الوجود في سوريا عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وكذلك تدعيم الأذرع من اليمن إلى لبنان.
وفي سياق التأهب والاستعداد تأتي التجارب الفاشلة والناجحة للصواريخ الفضائية والباليستية، وأخيرا أقامت إيران مناورات كبيرة في مياه الخليج تحت اسم “بيت المقدس 1”.
وتكرار اسم القدس من الفيلق إلى المناورات لا يعني أن طهران تتهيّأ لحرب مباشرة مع إسرائيل تفادتها أو لم تشأ خوض غمارها. من هنا يبرز الارتباك عند أصحاب القرار الإقليمي لأن الحروب بالوكالة أخذت تستنفد أغراضها ولأنه بعد النهاية المفترضة لداعش، سيتم التركيز الأميركي – الإسرائيلي على “الخطر الإيراني”. ومن ناحيتها طهران يمكن أن تلجأ كما في حرب تموز 2006 إلى حرب استباقية ضد إسرائيل “الحلقة الضعيفة للغرب” أو “بيت العنكبوت” الذي يمكن أن يتعرض لسيل الصواريخ من لبنان وسوريا وغزة في وقت واحد. وما إرسال الصواريخ إلى تل أبيب، بينما كانت مفاوضات تدور لتطبيع الوضع في القطاع تحت إشراف مصر، إلا على الأرجح رسالة إيرانية عشية الانتخابات الإسرائيلية للمشاركة في كل قرار إقليمي.
إنه إذاً العد العكسي خلال الشهور القادمة في سباق بين التسويات شبه المستحيلة واحتمال حرب إقليمية يمكن أن تؤدي إلى إعادة تركيب المشهد الاستراتيجي أو إلى المزيد من الفوضى الهدامة.