أفرطت ماري كولفن في التدخين، والشراب، والعلاقات الغرامية، والذهاب إلى ما بعد حافة الخطر. هذا لا يحدث للكثيرين والكثيرات، ولأنه كذلك، ثمة ماري كولفن واحدة، وربما غير قابلة للتكرار في جيل واحد. ولم تكن لقناعة كهذه أن تبدو منطقية، تماماً، لو لم يكن الموت برهانها الوحيد والأكيد.
قُتلت ماري كولفن قبل سبع سنوات. قصفت عمرها قذيفة للنظام السوري على حي بابا عمرو المحاصر في حمص، وبهذا طوت صفحة في كتاب حياتها، وفتحت غيرها. فالموت لا يكون في حالات استثنائية نهاية المطاف، بل يمنح الكائن الفاني حياة تدوم حين يرتفع به إلى مرتبة المثال، ويرفعه على ساعد المجاز إلى شرفة بعيدة يرمق منها الأحياء ما بعد حافة الخطر.
هل سعت إلى هذا كله، أو حلمت به؟ على الأرجح لا. أرادت أن تكون امرأة متفوّقة ومستقلة، أن تنشئ أسرة، وأن تُنجب أطفالاً، وأن تُحِب وتُحَب، كما يفعل الآخرون، ولكنها سمعت نداء غامضاً من بعيد، كما في الأساطير الإغريقية، وحكايات “الندّاهة“ الشعبية في مصر، ناداها فأجابت، وأغواها فغوت، إذا اقترب دنت، وإذا ابتعد لاحقته، فلا حياة في الحياة خارج حالاتها القصوى.
لم تنشغل لندسي هلسوم بالنداء، ولا المجاز، ولكنها عثرت على جملة واحدة تُلخّص السيرة، في الكتاب الذي نشرته في نوفمبر الماضي بعنوان“ الحياة في حالاتها القصوى: حياة وموت المراسلة الحربية ماري كولفن“. وعبارة “الحياة في حالاتها القصوى“ تعود لكولفن نفسها في معرض الرد على سؤال حول ماذا ترى في الحرب. والعبارة تنطوي، في الواقع، على دلالتين: الحرب بوصفها حياة يعيشها الناس في حالة قصوى، وتجربتها الذاتية كحياة في حالة قصوى.
كانت ماري كولفن ابنة لزمانها ومكانها. وُلدت لعائلة من الطبقة الوسطى، في أميركا الضواحي، وتفتحت على الدنيا في سبعينيات القرن الماضي، التي شهدت حرب فيتنام، وحركة الحقوق المدنية، وصعود اليسار الجديد، والموجات الارتدادية لثورة 68 الطلابيّة. أسهمت هذه التحوّلات الراديكالية في تقويض الكثير من النظم والقيم والتقاليد الأكاديمية والمهنية والاجتماعية المُحافظة، وتركت بصمة دائمة على حياة ذلك الجيل.
تعلّمت في أرقى الجامعات، واختارت العمل في الصحافة في وسط لم تحظ فيه النساء بالاعتراف أو المساواة. وفي لحظة ما، في معرض إنشاء الهوية، عثرت في مارتا غيلهورن على مثلها الأعلى. المذكورة أبرز مراسلة حربية في القرن العشرين، غطت الحروب الأسبانية، والصينية، والكورية، والعالمية الثانية، وكانت من أوائل مَنْ دخلوا معسكرات الإبادة النازية، بعد التحرير، كما اقترن اسمها بأرنست هيمنغواي رفيقة وزوجة، مع كل ما اكتنف علاقة كهذه من رومانسية ونكد.
وما يعنينا، على نحو خاص، أن خطوتها الأولى على الطريق الطويل، الذي سينتهي تحت أنقاض بناية في حمص، بدأت مع الفلسطينيين وبالفلسطينيين، عندما عملت في الصنداي تايمز البريطانية، ووجدت الطريق إلى مكتب ياسر عرفات في تونس، وكانت أوّل من دَخَل مخيمات بيروت المُحاصرة في ما عُرف في حينها بحرب المخيمات، وشهدت هناك مقتل امرأة خرجت للحصول على طعام وماء برصاصة قنّاص. الحادثة التي ستصبح جزءاً من كوابيس ليلية كثيرة لاحقتها سنوات وسنوات.
في تلك الأيام، بعيد اندلاع الانتفاضة الأولى، التقيت بماري كولفن، للمرّة الأولى، في بيت بسّام أبو شريف، في تونس العاصمة، وكانت مزهوّة بعلامتين الأولى على صدرها، العقد الذي أهداها إياه ياسر عرفات، والثانية في وجهها، بعدما قذفها أحد شبّان الانتفاضة بحجر، كاد يحطم أنفها، أثناء تغطيتها لأحداث الانتفاضة في الضفة الغربية. وكان في اجتماع العلامتين في امرأة فاتنة، خضراء العينين، ومُفرطة في كل شيء، ما يأخذ الألباب.
في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، وحتى مطلع التسعينيات، كانت تونس محطة ترانزيت في حياة ماري كولفن. ذهبتْ إلى ليبيا، وهناك حاول القذافي غوايتها، بل وأرسل ممرضة إلى الفندق الذي تقيم فيه لتأخذ عيّنة من دمها (خوفاً من الإيدز)، ولكنها أفلتت منه، لجأت إلى ياسر عرفات، الذي تصادف وجوده في ليبيا، وعادت معه في طائرته إلى تونس.
وفي مناسبة ثانية أخرجها بطائرته من العراق، عندما ذهبت لتغطية الحرب العراقية ـ الإيرانية، وتسللت مع لميس أندوني إلى البصرة، التي منع النظام الصحافيين الأجانب من زيارتها، لتتحقق بنفسها من تقدّم القوات الإيرانية في اتجاه المدينة. وعندما افتضح أمرها، منعها النظام من المغادرة، فلجأت إلى ياسر عرفات.
ومع هذا وذاك، ركضت إلى كل مكان اشتعلت فيه نيران الحرب. لبنان، حرب الخليج الأولى والثانية، الانتفاضة الثانية في الأراضي المحتلة، الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة، الشيشان، أفغانستان، الحروب الأهلية في أفريقيا، وفي العام 2001 ذهبت إلى سيريلانكا لتغطية الحرب بين ثوّار التاميل والحكومة المركزية، وهناك فقدت إحدى عينيها في الأدغال بشظايا قنبلة.
ربما كان عليها أن تتوقف عن الركض بعد تلك الحادثة، وأن تكتفي بما عادت به من عوالم ما بعد حافة الخطر من جراح في الروح والجسد. ولكنها لم تفعل، كان حلم الاستقرار العائلي بعد زيجات فاشلة قد ابتعد، وكذلك القدرة على الإنجاب، والبقاء في مكان واحد فترة طويلة من الوقت. لم يبق من الحياة في حالاتها القصوى سوى الركض على طريق الحياة في حالاتها القصوى.
في يوم بعيد، وبعد سهرة، في بيت بسّام، امتدت حتى صباح اليوم التالي، اصطحبت ماري بسيارتي لإيصالها إلى مكان إقامتها، في شوارع خلت من المارّة، واختلطت فيها تباشير الصباح بما تبقى من عتمة الليل، قالت بعد لحظة صمت قصيرة: خذني إلى البحر.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني