ربما صدقَ مَن قال أنّ المكان هوَ الآخر كائنٌ روحيّ يبادلكَ الودَّ والمحبّة والحميميّة والألفة، ويشارككَ الذكريات والأحلام. وكم أشعرُ بهذا الأمر يسكنني شوقاً حينما أرتادُ بين الحين والآخر “سوق المباركية”، الواقع في منطقة “القبلة”، وقد سُمّيَ نسبةً إلى الشيخ “مبارك الصباح”، ويُعتبرُ من الأسواق التراثية الجميلة في الكويت.
ففي كلّ مرَّةٍ أتقصَّدُ متودّداً هذا السُّوق، حيث ما تزال زواياه العابقة بالتراث والذاكرة العتيقة ترتبطُ في ذاكرتي بالودّ والحميميّة، ولا تنفكُّ تُشاركني الذكريات والأوقات الجميلة. ولا أدري حقيقةً كيف تستطيع الأمكنة عبر تفاصيلها الناطقة بِحميميّة زواياها ودروبها ورائحتها أنْ تتحوّل إلى ذاكرةٍ حاضرةٍ في أعماقنا، تربطنا بجماليّات الزمن الفائت والآتي.
هل لأنّ المكان بتعبيرٍ أقربُ إلى الشاعريّة، هو كَالشّرفةِ المشرعة على مراحات النّفس البشريّة، والتي سرعان ما تتآلف معها بعلاقةٍ وجدانية، تستحضر من خلالها أعمق النبضات حبّاً وتجاذباً واندفاعاً، لِخلق حالةٍ اندماجية مع ظلالها الوارفة في مملكة الذاكرة. وربما هنا علينا أن نعترف أنّ “المكان” له القدرة الجماليّة على استنطاق الحنين في نبضنا. وفي كلّ الأحوال، لا يمكن لنا أنْ ننفي أنّ للأمكنة الأثيرة في نفوسنا، قدرةٌ استحواذية علينا، لأنها قادرة بِجدارة على إلهامنا تلكَ الذاكرة الوجدانيّة والعاطفيّة..
المباركية ليست سوقاً عاديّة، بالمعنى الدارج للكلمة. إنها شُرفة “فنيّة” تطلّ على القديم بِرؤيةٍ جماليّة مُلهمة. فتستلهمُ من القديم هندسة الأسقف الخشبيّة التراثية، والجدران العتيقة والممرات المتداخلة، والمحلاّت المفتوحة بالكامل على الطُّرقات، حيث لا تنحشرُ في أبوابٍ ضيّقة. وكأنّ هذا التصميم يريدُ أنْ يبعث في نفوسنا سريعاً تلكَ الألفة المتجانسة مع المكان، وكأنّه يريد أيضاً أنْ يضعنا عميقاً في المناخ الحميميّ مع زواياه ومحلاّته وممرَّاته. وشخصياً أجِد أنّ الأسقف الخشبيّة العالية ذات الشكل التراثيّ تلك التي تُظلّل السُّوق بأكمله، لها رونقٌ جميل في المنظر العام للسُّوق، وتوحي بعمق إلى أنّ السماء من فوقكَ شاهقةٌ وباسقة ورحبة.
والجميل أنّكَ وأنتَ تتجوّل في هذا السوق تشعرُ بأنّ القديم من الأمكنة يستطيع أنْ يبقى صامداً برونقهِ الأخّاذ مع ما حولهِ من العمران الشاهق الحديث. فالمباركية تحيطها الأبراج والمباني الحديثة الشاهقة، ولكنّها تبقى لوحة فنيّة متفرّدة بإطلالتها الجميلة، وهيَ تتاخم بجماليّة رائعة نزعة الحداثة العمرانية في المباني والأبراج التي تحيطها من كلّ ناحية..
ماذا يعني أنْ يأخذكَ الحنين دائماً إلى هذا السُّوق، كما يفعل معي دائماً ؟ إنّه يعني التّوق الشهيّ للبساطة والشفافية والحرّية ربما، ويعني التجوّل استحضاراً للذاكرة الملهمة. الذاكرة التي لا تريد أنْ تتصلّب تحت الأسمنت المسلّح الذي أصبحَ يحاصرنا في كلّ مكان، وهي الذاكرة التي تريد أنْ تبقى مشحونةً بالحميميّة والألفة والمشاعر الجميلة.
وليسَ أجمل وأنتَ تمخر عباب هذا السّوق، ورائحة الخضار الطازجة تملأ رئتيكَ، وتستهويك رائحة البهارات المنبعثة من محلاته المتناثرة هنا وهناك، وتأسركَ التمور الشهيّة بلمعانها المشع. والممتع في المباركية أنْ تجدَ استراحتك في مقاهيها الشعبية البسيطة، العابقة بروائح الماضي الذي يحضر شفيفاً، حيث “استكانة الشايّ” هناك مفعمة بالمذاق الشهيّ والرائحة الطازجة والذكريات الآسرة، ويحلو ارتشاف الشايّ هناك على إيقاع الأحاديث والحوارات الشيّقة مع مّن تشاركهم هذه الفسحة الممتعة من البساطة والتلقائيّة في جنبات هذا السُّوق..
ومَن منّا لم يملُّ يوماً من المطاعم الحديثة، والأطعمة الجاهزة، والطاولات الأنيقة الفارهة فيها، وذلك الإيتيكت الجامد في نظامها، فيلجأ متشوّقاً وشغوفاً إلى المباركية لتناول الأطعمة الشعبية الطازجة في مطاعمها، تحت أجواء مفتوحة رحبة، تخلو من التعقيد المبرّمج والتكلّف والاستعراض، ووسط مزيج هائل من مرتادي السُّوق. وأنْ يأتيك الطلب مصحوباً بقرقعة الأواني ودندنة النادل وإبتسامات العاملين هناك..
وليسَ أجمل من أنْ تتسوّق هناك، وأنتَ تستحضر المذاق الشّهيّ لبعض الحلويات الشعبية الكويتية المعروفة (كالدرابيل والرهش) وغيرها ، والتي تفرض مذاقها الطيّب في مواسم معيّنة من السَّنة. والغريب أنّي لمستُ في الجيل الحالي من الشباب والشّابات توقهم التلقائيّ للتجوّل في سوق المباركية، وكأنّهم كانوا من مرتاديه السابقين، وأصبحوا يعشقون التجوّل في ردهاته العديدة، وارتياد مطاعمها ومقاهيها ومحلاتها المختلفة، والتّوقّف مليّاً أمام الجدارية الضخمة للشاعر الكويتي الفذّ الراحل فهد العسكر ، والتي تنتصب هناك في زاوية من السُّوق ، شاهدةً على ذاكرةٍ شعريّة لا تزال شاخصةً بالتّوهج والتفرَّد في عقول حرَّةٍ، وكأنّ “المباركية” جسر من المعرفة والألوان والفنون يربطهم خلاّقاً بماضي شعرائهم وأدبائهم وآبائهم وأجدادهم وصانعي دولتهم..
في أيّام العطل ومناسبات الأعياد، تستعد”المباركية” ابتهاجاً لإستقبال زائريها من دول الخليج، ومن الدول العربية والأجنبية، وتتحوّل في مثل هذه الأيام إلى مسرح يكتظُّ بالمشاهدين والمتجوّلين والعابرين من مختلف الألوان والأزياء والجنسيات واللهجات واللغات. وتمتزج كلّ تلك الأشياء في لوحةٍ زاهية مرصّعة بالتعدّدية الثقافية والعرقية. ومن خلال السنوات السابقة عرفتُ كم يعتبر هذا السوق مركزاً جميلاً ومشوّقاً لزائريه من دول الخليج العربي تحديداً، وكم يروْنه مكاناً جاذباً لهم، يستمتعون بالتبضّع من حلوياته وبهاراته وألبسته الشعبية، ويتمتعون بتذوق الأطعمة في مطاعمه، والجلوس في مقاهيه المتنوّعة.
أعرفُ صديقاً كاتباً من دولة خليجيّة، في كلّ زيارة له إلى الكويت، يطلبُ منّي أنْ أصطحبه أولاً إلى المباركية، ويقول لي في كلّ مرَّةٍ : أنّ هذا السُّوق بالنسبةِ لي مثل المزار الذي أستريح فيه، ويأخذني إلى عبق التراث، وأجد فيه ذاكرتي الجميلة والمشوّقة عن الكويت وأهلها. ولي صديقٌ آخر يهتمُّ بالأدب والشعر ، حينما يزوره أصدقاؤه الشعراء والأدباء من دولة البحرين أو السعودية أو عُمان، يأخذهم سريعاً إلى”المباركية” نزولاً عند رغبتهم الشديدة لزيارة هذا السُّوق التراثيّ، والذي أصبحَ واحداً من أجمل الأماكن في ذاكرتهم، يستمتعون بالتجوّل والسير بين جنباته، والاستراحة في زواياه العديدة، واستلهام بعض المعاني الجميلة من أجوائه المترعة بعبق التراث..
وذاتَ نهار من نهارات الشتاء المشمسة، ذهبتُ إلى”المباركية” للاستمتاع بوجبة غداءٍ على إيقاع الذكريات البعيدة. وبِمجرد أنْ أخذتُ مكاني على طاولةٍ صغيرة، كان في جواري على طاولةٍ أخرى يجلس رجل في العقد الخامس من عمره كما خمّنتُ، وبرفقتهِ زوجته، وعرفتُ من تبادل التحيّة المقتضبة معه أنّه انجليزيّ الجنسيّة يقيم في إمارة دبي. فسألته مبادراً، ما الذي وجده في هذا المكان تحديداً، وهل يحبُّ نوعية الطعام المقدَّم هنا. أجابني سريعاً بنبرةٍ مريحة: أنّه في كلّ زيارة له للكويت يقصد”المباركية” تحديداً، ويستمتعُ بالأجواء التراثية فيها، وتستهويه نوعية الأطعمة فيها، وأردفَ بانشراح أنّه قلّما يجد مثل هذا السُّوق المتنوّع في بلادٍ أخرى، وكم أبدى اعجابه بمبنى”المباركية” الذي يجده يحاكي الحداثة بروح تراثية خلاّقة، ويحرص في كلّ زيارة له للكويت أنْ يأخذ وقتاً ممتعاً وجميلاً في هذا السُّوق..
وفي ذكرى عيد التحرير والعيد الوطني لدولة الكويت، ترتدي”المباركية” أجمل فساتينها الزاهية، وتخرجُ لمرتاديها وعاشقيها بحلّةٍ قشيبة، تتوشّى باللون الأخضر والأبيض والأحمر، وتبدو وكأنّها نجمةٌ لامعة، تتراقص على خيوط الأضواء المبهجة، تهطلُ ببريقٍ مشعّ، وتزدهي في سرور بالغ، وتختالُ في كبرياء وميض، وتتهادى فرحاً بأضوائها البرّاقة، وتتمايل طرباً على إيقاع الأغاني الوطنية، والأهازيج الشعبية.
وتحتفي”المباركية” في الأعياد الوطنية بأبنائها الأوفياء، يغنّون معها ويخاصرونها في رقصةٍ شعبية جميلة، ويسهرون معها طويلاً في زواياها العتيقة، ويمسحون عن مقلتيها دموع الأحزان التي ذرفتها في الأيام العصيبة من تاريخها، ويسيرون معها دروباً ممتلئة بالحياة والألوان والأنغام والألحان والأعياد. فتغدو”المباركية” في أعياد الكويت وكأنّها المدى الرحب من الذكريات والأفراح والمسرّات، تشرع ذراعيها بكلّ حميميّة وودّ وألفة لمرتاديها العشّاق، كما لو أنّهم في حضرتها يأتونَ من شوقٍ بعيد، ومن فرحٍ غامر، ومن لهفةٍ آسرة ..
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي