في السودان مظاهرات لأن الناس لا يجدون الخبز. لا بأس. لا أريد التعليق على المظاهرات، ولا على الخبز. كل ما في الأمر أنني أتابع، منذ أيام، تصريحات ناطق باسم الحكومة السودانية في مقابلات مع فضائية فرنسا 24، القناة الوحيدة التي تستحق المشاهدة بين الفضائيات الناطقة بالعربية. وما يستوقفني في التصريحات الكلام عن الاحتكام إلى الديمقراطية، وحق الناس في التظاهر، وحرية التعبير، واحترام وسيادة القانون.
لا بأس. ولولا ملامح الناطق، ولغته، وحقيقة أن المذيعة قالت إنه من الحزب الحاكم، ويتكلّم من السودان، وعنه، لتخيّلت أن الكلام لناطق باسم الحكومة في السويد لا في السودان. ففي السودان حاكم جاء إلى سدة الحكم على ظهر دبابة، وتربّع عليها منذ 29 عاماً، ويعمل الآن على تعديل الدستور لتمكينه من ولاية ثالثة. وهذا كله، بالقانون، طبعاً.
والمهم، أنه متهمٌ بجرائم ضد الإنسانية، وهذه قناعة محكمة العدل الدولية، التي أصدرت مذكرة توقيف بحقه، وأن بلاده خسرت جنوبها، الذي أصبح دولة مستقله، في عهده، أيضاً. والمهم، أيضاً وأيضاً، أن الناس أصبحوا لا يجدون الخبز.
ولا أريد التعليق على هذا كله، بل التذكير بما ينطوي عليه كلام الناطق من فصام وانفصام، ما بين الواقع ولغة الكلام عنه، وحقيقة أن هذا يحدث بطريقة عفوية تماماً، وإلى حد لا يبرر حتى الإحساس بتأنيب الضمير. فالكلام ينزلق بطلاقة وسلاسة يضيع فيها الفرق بين السويد والسودان.
ولكي نكون منصفين، فهذه ليست مشكلة السودان وحده، ففي سورية التي ينص دستورها على أنها جمهورية، ورث ابن عن أبيه الدولة، والشعب، والسلطة، والحزب، والدستور، الذي عدّله في جلسة لم تستغرق أكثر من ربع ساعة، لتجاوز عقبة أن الرئيس يجب أن يكون في السادسة والثلاثين، وفي تلك الأيام لم يكن الوريث قد تجاوز الرابعة والثلاثين. وقد حدث هذا كله بالقانون، وفي ظل احترامه وسيادته.
ولكي نكون منصفين، فالمشكلة لا تقتصر على سورية والسودان، بل تنسحب على كل مكان آخر في العالم العربي، الذي يبدو وكأنه الأكثر احتراماً للدساتير، والتزاماً بالقانون، وتقديساً للسيادة، من كل شعوب الأرض. فلا شيء يحدث في هذا الجزء من العالم بعيداً عن احترام وسيادة القانون.
ونتيجة هذا كله فصام وانفصام ما بين القول والقائل، وما بين اللغة والواقع، إلى حد تبدو معه الحياة كمسرح للعبث، ويبدو فيه العرب وكأنهم لم يخرجوا من الكهف الأفلاطونية بعد، فقد أداروا ظهورهم إلى الشمس في المدخل، وتسمّرت عيونهم على عالم الوهم. ولكي نكون منصفين، أيضاً، فإن جذور الفصام والانفصام عميقة، وبعيدة في الزمن.
لا بأس. تفلسفنا بما فيه الكفاية. والواقع أن المُحرّض على تناول موضوع الفصام والانفصام صدر عن أمرين يبدو كلاهما وثيق الصلة بالآخر. ذكرنا الأوّل في معرض الكلام عن تصريحات الأخ السوداني، ونصل الآن إلى الثاني، الذي جاء في صورة البيان التأسيسي “للتجمّع الديمقراطي الفلسطيني“ قبل يومين، والذي يجري فيه الكلام عن حلول للخروج من الأزمة بسلاسة، وطلاقة.
يضم التجمّع، كما جاء في بيانه، 5 فصائل يسارية. أعرف، كما أبناء جيلي، كم كان من اليسار في اليسار، ولكن لا أعرف، بالتأكيد، كم بقي من اليسار في اليسار، وإذا كان البيان شاهداً على ما بقي منه، وفيه، فمن المؤكد أن ثمة أزمة في الهوية، والتباس في تعريفها، والتعبير عنها.
ولا أجد ضرورة للتعليق على الحلول، ولا على مفردات الشراكة، والتوافق، والتعددية والحريات العامة، فكل هذا كلام عام، لن يختلف معه أو عليه أحد، بل أكتفي، على سبيل التمثيل، بالإشارة إلى عبارة وردت في البيان عن النساء: “ الدفاع عن حق المرأة في المساواة التامة والمشاركة الفاعلة في آليات صنع القرار وفي مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية“.
هذا، أيضاً، كلام عام، ولن يختلف معه ولا عليه أحد، وحتى “حماس”، أي اليمين الديني (بلغة ينبغي أن تُميّز اليسار عن غيره) بعدما وقعت في غرام غاندي ومانديلا، لن تجد صعوبة في الاتفاق معه، والموافقة عليه. مشكلة الكلام العام أنه يحقق الإجماع، ولكنه يسقط، كما الكلام العام عن “المصالحة“ و“الانقسام“، في امتحان التأويل.
ولكي يكون اليسار يساراً ينبغي أن يعثر على ما يُميّزه في لغته لا في الكلام العام. فما معنى “المساواة التامة“ ستجد حتى في السعودية من يؤكد لك وجود المساواة التامة، وأن كل ما يراه الآخرون نقصاً ونقيصة ليس أكثر من اجتهاد، أو خلل، في التأويل.
ولكي تكون “المساواة التامة“ تامة فعلاً فإن مكان الشغل عليها، والاشتغال بها، هو مدوّنة الأحوال الشخصية، وفكرة المواطنة. فالمرأة، كما ذكرنا في مرّات لا تُحصى، لا تكتسب قيمتها من كونها أماً، أو زوجة، بل من كونها مواطنة. المُواطَنة غير المنقوصة لا تُميّز بين شخص وآخر على أساس الدين، أو الجنس، أو العرق. يعني لا تكون “المساواة التامة“ تامة إلا بالتساوي في قضايا الميراث والزواج والطلاق والملكية والحضانة والولاية، والصفة القانونية.
هل توافق الأغلبية على أمر كهذا؟“ بالتأكيد لا. وهل يمثل اليسار المجتمع بمختلف فئاته وطبقاته، أم نسبة مئوية منه، سبق لناطق من حماس أن سخر منها بالقول إنها لا تكفي لحمولة باص؟ ولكي يكون اليسار يساراً فإن قضيته هي زيادة عدد الباصات والركّاب، باسم التعددية، والشراكة. أليس كذلك؟
وإن لم تكن هذه مهمته الاجتماعية، ومصدر فعاليته السياسية، ودلالته الثقافية، فماذا تكون، وماذا يكون؟