شهدت إسرائيل مؤخّرًا جولة جديدة من انتخابات السلطات المحلية، وبطبيعة الحال شارك في هذه الانتخابات أيضًا المواطنون العرب الفلسطينيون لانتخاب ممثّليهم في المجالس البلدية وانتخاب رؤساء للمجالس البلدية مباشرة. في الكثير من المواقع ستُجرى جولة ثانية لعدم حصول أحد المرشّحين على نسبة كافية للحسم من الجولة الأولى.
من الجدير بنا أن نتتبّع سير هذه الانتخابات لما تكشفه لنا من أمور يحاول البعض إخفاءها أو التقليل من أهمّيتها. إذ إنّ المُلاحَظ في هذه الانتخابات هو ذلك الاختلاف الجوهري الذي بدا واضحًا بين الانتخابات في الوسط اليهودي وبينها في الوسط العربي. ففي الوقت الذي تبلغ فيه نسبة التصويت في الوسط اليهودي حوالي ستين بالمائة من أصحاب حقّ الاقتراع فإنّ هذه النسبة ترتفع في الوسط العربي إلى ثمانين بالمائة، بل وتربو أحيانًا على التسعين بالمائة في بعض المدن والقرى العربية.
لكن، ليس هذا هو الأمر المهمّ في هذا الفارق البارز بين الجمهورين من المواطنين في ذات الانتخابات. إذ إنّ الأهمّ من ذلك وأخطر هو تلك الفجوة الحضارية التي تبرز في طريقة تقبُّل النتائج بين المواطنين اليهود والمواطنين العرب. ففي الوقت الذي تجري فيه الانتخابات في الوسط اليهودي بسلاسة فإنّنا نشهد خلاف ذلك في الوسط العربي، إذ لا يكاد يمرّ يوم دون أن نسمع عن أعمال عنف تجري في البلدات العربية. لا يمكن مواصلة دسّ الرؤوس في الرمال وإطلاق الشعارات العربية التي أكلّ عليها الدهر، وشرب، بل وأحدث ناشرًا على الملأ روائحها الكريهة.
فعلى ما يبدو، وعلى الرغم من كلّ هذه العقود من ممارسة اللعبة الديمقراطية، لم يفلح المجتمع العربي في إسرائيل بالانعتاق من موبقات هذه الذهنيّة القبليّة والطائفية المتجذّرة فيه. لهذا نشاهد كلّ هذا العنف الذي برز في الطوشات العمومية التي شهدتها البلدات العربية على خلفية هذه الانتخابات.
بالطبع، لا يوجد ما هو أسهل من أن ننحو باللائمة على السلطة المركزية وعلى الشرطة وتحميلهما مسؤولية ما يجري في الوسط العربي. لقد كان هذا دأب أصحاب الشعارات منذ القدم. غير أنّ مضيّ القيادات السياسية والثقافية في إطلاق هذا النوع من الشعارات هو هروب من مواجهة الحقائق التي تُحرّك هذا المجتمع منذ القدم. لا يوجد ما هو أسخف من اتّهام السلطة الإسرائيلية بهذا الوضع القبلي والطائفي السائد في المجتمع العربي في إسرائيل. إذ إنّ هذا المجتمع لا يختلف بشيء عن سائر المجتمعات العربية في هذا المشرق. فهل إسرائيل مسؤولة عن القبلية والطائفية في في المجتمعات والأنظمة العربية، مثل لبنان، سورية، العراق والخليج، إلى آخر هذه الأصقاع العربية من مشرقها إلى مغربها؟
لقد لاحظنا هنا أنّ المجتمع العربي في إسرائيل قد حوّل الديمقراطية إلى مهزلة كبرى. ففي الكثير من البلدات العربية أُجريت قبل انتخاب السلطات المحليّة انتخابات تمهيدية عائلية لاختيار ممثّل العائلة ومرشّحها لرئاسة المجلس البلدي. كما إنّ مرشّحين للرئاسة صرّحوا علانية عن وجود مجلس عائلي يُقرّر بشأن الترشُّح وبشأن قضايا أخرى. فهل السلطة الإسرائيلية المركزية مسؤولة عن هذه الذهنيّة المتجذّرة؟
خلال العقود الأخيرة قد دأبت كافّة الحركات السياسية الفاعلة بين الجمهور العربي في إسرائيل، وعلى كافّة تشكيلاتها الحزبية، على محاربة ما يُسمّى «الأسرلة»، داعية إلى العمل على الحفاظ على ما يُسمّى «عروبة» هذه الأقليّة.
وهكذا يتّضح بعد كلّ هذه العقود من رفع شعارات الـ«عربنة» أنّ هذه العربنة قد كشفت عن جوهرها الحقيقي المتمثّل بكلّ هذه الـ«عربدة» القبليّة الحمائلية والطائفية التي تشهدها البلدات العربية في إسرائيل.
لهذا السبب، يجب إجراء حساب نفس معمّق، وإعادة النظر في كلّ هذه الشعارات التي لم تُقدّم المجتمع العربي قيد أنملة. بل على العكس من ذلك، إنّ الإصرار على الـ«عربنة» يعني في نهاية المطاف التشبُّث بهذه الذهنية القبليّة التي تنخر المجتمعات العربية في كلّ مكان.
إنّ ما تشهده الساحة العربية في إسرائيل عقب الانتخابات المحلية هو أكبر دليل على انعدام «الأسرلة» بالمرّة. فلو كان ثمّة أسرلة حقيقية لما شهدنا كلّ هذا العنف ولجرت الانتخابات بسلاسة على غرار ما جرى في الوسط اليهودي.
من هذا المنطلق، لا يسعنا سوى القول إنّ المجتمع العربي في إسرائيل، إذا كان ينشد التقدُّم. سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا فإنّ أسلك الطرق إلى ذلك هي الجنوح إلى الأسرلة بالذات. إذ إنّ الأسرلة، بخلاف العربنة، هي الحلّ.