“ماتت الرابطة الإسلامية، قبل قرون، على أبواب « فيينا »!
“فكرة القوة، والفَتح، والتوسّع ماتت في تركيا إلى الأبد”.
أقوال مصطفى كمال « أتاتورك » تتضمّن عِبَراً مفيدة لعالمنا الحالي. مثلاً، لفلاديمير بوتين الذي بنى سلطته على الفكرة « الإمبريالية »، كما يسمّيها « أتاتورك »، أي على فكرة القوة والفتوحات والتوسّع (التي أدّت إلى خراب ألمانيا والنمسا وروسيا وتركيا في زمن «أتاتورك»). أو للحكام الذين لم يستوعبوا (مثلما لم يستوعب محمد علي الكبير، والإمبراطور الروسي بطرس الأكبر والإمبراطورة كاترين العظمي) أن التقدّم الإقتصادي والعلمي لم يتحقّق في الغرب إلا لأن الغرب اخترع « الرأسمالية » ومعها.. « الحرية ». (هذا النقد ينطبق على “اتاتورك” نفسه الذي كان حكمه “أوتوقراطياً” وليس “ديمقراطياً”، ولكن، هل كان ممكناً إصلاح حال الإمبراطورية العثمانية بدون التعسّف والقمع؟). وأقوال « كمال باشا » تتضمن عَبَراً مفيدة لـ « إخوان » جماعة « وأعدّوا » وفوقها سيف: فتركيا الحديثة لم تعد ترغب بالقوة، ولا بالفتوحات، ولا بالإمبراطورية! وتركيا الحديثة لم تعد تؤمن بالفكرة “الإسلامية” (أو “الإسلام-السياسي- هو الحل”!) التي.. ماتت قبل قرون على أبواب فيينا! الفرق صادم بين « أتاتورك » والرئيس رجب طيب إردوغان الذي رفعَ شعار « مآذننا حرابُنا »، حينما كان رئيس بلدية استانبول. وبين أتاتورك وجماعات “ولاية الفقيه” و« الإخوان » و « السلف » التي تعيش (إلى حين!) في كهوف ماضٍ سحيق.
بعد ٩٥ سنة على هذه المقابلة مع جريدة أميركية يبدو « اتاتورك » العظيم إبن عصرنا الحالي.
بيار عقل
*
نُشّرت هذه المقابلة مع « كمال باشا »، لأول مرة، في جريدة « ساترداي إيفننغ بوست » الأميركية، في ٢٠ نوفمبر ١٩٢٣. وأعيدَ نشرها، أمس، في جريدة « حرّيت » (النسخة الإنكليزية) لمناسبة مرور ٨٠ سنة على وفاة « أتاتورك » في ١٠ نوفمبر ١٩٣٨. وكان عمره ٥٧ عاماً فقط. أجرى المقابلة الصحفي « إسحق ماركوسون ».
كانت الحكومة التركية منعقدة، من أجل نقاش آخر البرقيات الواردة من « لوزان »، حيث كان وزير الخارجية « عصمت باشا » (« إينونو »)، الغائب الوحيد عن الإجتماع الوزاري، قد وجّه، قبل يوم واحد، الإنذارَالتركي بخصوص « إمتياز تشيستر » (الذي سمح، في ١٩٢٣، لرساميل أميركية بتطوير سكك الحديد والنفط في تركيا)، وبخصوص الدين الخارجي التركي. وكانت الأجواء مُفعم بخطر نشوب حرب إقتصادية، أو حتى ما هو أسوأ.
خطوت إلى الأمام، فتقدّم « رؤوف بك » ليرافقني إلى مكان اجتماع الحكومة التركية. وتولّى هو تقديمي للمجتمعين، ولكن أنظاري شَخَصَت نحو شخص واحد. نحو الشخص الطويل القامة الذي نهض من مقعده على رأس الطاولة واتجه نحوي ويده ممدودة. وحيث أنني كنت قد شاهدتُ عدداً لا يُحصى من الصور له، فإن مظهره بدا لي مألوفاً.
قدّمني « رؤوف بك » إلى « كمال » في غرفة الإجتماع الوزاري. وبعد تبادل التحيات المألوفة باللغة الفرنسية، قال لي « كمال »، « ربما كان من الأفضل أن نذهب إلى الغرفة المجاورة لنتحدث، حتى نتيح للحكومة أن تواصل مشاوراتها ».
وجاء حاجب لا يقلّ أناقةً عن سيّده بالقهوة التركية الكثيفة التي لا مفرّ منها، ومعها السجائر، وبدأنا المقابلة.
سألته « ما هو المثال الذي تقوم عليه حكومتك؟ بكلام آخر، هل ما زلت تؤمن بفكرة « الرابطة الإسلامية » و « الرابطة الطورانية » (حركة سياسية عنصرية نشأت في أواخر القرن ١٩ واستهدفت توحيد جميع أبناء العرق التركي- الشفاف)؟
« سأجيبك باختصار »، قال كمال. « كانت الرابطة الإسلامية تمثّل إتحاداً يقوم على الجماعة الدينية. أما « الطورانية » فكانت تجسّد جماعة يجمعها الجهد والطموح، ولكن على أساس عِرقي. والحقيقة أن الرابطة الإسلامية ماتت، قبل قرون، على أبواب « فيينا »، التي مثّلت أبعد نقطة وصلها التقدّم (العسكري) التركي شمالاً. أما الطورانية فقد هَلِكَت في سهول الشرق.
“لقد كانت كلا هاتين الحركتين على خطأ لأنهما قامتا على فكرة « الفتح »، التي تعني القوة والإمبريالية (الإستعمار). لسنواتٍ كثيرة، سادت في أوروبا الفكرة الإمبريالية. ولكن الإمبريالية محكومة بالسقوط. وبوسعك أن تجد الجواب في أنقاض ألمانيا، والنمسا، وروسيا، وفي تركيا كما كانت. إن الديمقراطية هي أمل الجنس البشري.
“قد تستغرب أن تسمع مثلَ هذا الحديث من تركي، ومن جندي مثلي تلقّى تعليمه في مدارس الحرب. ولكن ذلك يمثّل بدقّة الفكرة التي تقوم عليها تركيا الجديدة. نحن لا نرغب بالقوة، ولا نرغب بالفتوحات. نريد أن نُترَكَ وحدنا، وأن يُسمَح لنا بأن نصنع مصيرنا الإقتصادي والسياسي. وفوق هذه الفكرة قام كل بناء الديمقراطية التركية الجديدة التي، إذا سمحت لي، تمثّل أيضاً الفكرة الأميركية، ولكن مع فارق: نحن دولة واحدة كبيرة وأنتم ثماني وأربعون دولة.
إن فكرتي عن القومية هي فكرة شعب تجمعه أصول ودين وطباع مشتركة. لكن طوال مئات السنين كانت الإمبراطورية التركية عبارة عن كتلة بشرية مؤتلفة يمثّل الأتراك أقلية ضمنها. وكان عندنا ما يسمى « أقليات »، كانت هي السبب في معظم متاعبنا. هي، وفكرة الفتوحات القديمة. إن أحد أسباب سقوط تركيا في العفن والخراب هو أنها أُرهِقت من جرّاء عملية الحُكم الشاقة بحد ذاتها. لقد كانت الإمبراطورية القديمة أكبر بكثير مما ينبغي، ما جعلها عِرضة للمتاعب عند كل منعطف.
« ولكن فكرة القوة، والفَتح، والتوسّع ماتت في تركيا إلى الأبد. لقد كانت إمبراطوريتنا القديمة عثمانية. وكانت تعني القوة. ولكن تلك الصفة باتت محظورة في قاموسنا. نحن الآن أتراك- وأتراك فقط. وذلك هو السبب في أننا نريد تركيا مؤلفة من الأتراك، وتقوم على « حق تقرير المصير » الذي عبّر عنه « وودرو ويلسون » أفضل تعبير. يعني ذلك القومية، ولكن ليس ذلك النوع من القومية الأنانية التي حالت دون حق تقرير المصير في أنحاء كثيرة من أوروبا. كما أنها لا تعني الحدود وحواجز التعرفات الجمركية التعسّفية. إنها تعني الباب المفتوح للتجارة، والإنبعات الإقتصادي، والوطنية الحقيقية التي تمثّل التعلّق بأرض الوطن. بعد سنوات طويلة من الدم المسفوح ومن الفتوحات، توصّل الأتراك أخيراً إلى إقامة وطن أم. لقد تم رسم حدود هذا الوطن، وتبعثرت الأقليات التي كانت تسبب المتاعب. وخلف حدودنا، فنحن نرغب في أن نقف وقفتنا وأن نعمل من أجل خلاصنا نحن. نحن ننوي أن نكون أسياداً داخل بيتنا.
« إن الفكرة الأولى والأسمى في تركيا الجديدة ليست سياسية، بل هي إقتصادية. نحن نريد أن نكون جزءاً من عالم الإنتاج، ومن عالم الإستهلاك كذلك ».
*
إقرأ أيضاً:
أتاتورك هو الحلّ
أخطأت في كل ما تقول…يا أخي اتق الله وارجع عن ماقلت