يمكن أن يدفع المأزق إلى تصعيد السياسات المتطرفة للنظام الإيراني عبر الاستفزاز في المياه الدولية، أو تزويد أطراف المحور الإيراني في لبنان والعراق بأسلحة نوعية
التحدي المرتسم أمام طهران إزاء الحظر الأميركي الوشيك للنفط سيزيد من صعوبات طهران ويضع سلوكها على المحك. وسنشهد مواجهة تكتيكية إيرانية لاستراتيجية تصعيد العقوبات.
في الرابع من نوفمبر الجاري ستدخل حيز التنفيذ العقوبات التي فرضتها واشنطن على قطاع النفط الإيراني الحيوي، أي بعد 39 سنة بالتمام والكمال على احتلال الطلاب الثوريين السفارة الأميركية في طهران واندلاع أزمة احتجاز الرهائن في 1979. وما استخدام الذاكرة التاريخية الطويلة من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب في تزامن الحدثين من نتاج المصادفة، بل حلقة جديدة من مسلسل أميركي طويل يستمر فصولا منذ أربعة عقود شهد فيه الشرق الأوسط والخليج شتى التحولات والحروب. ومما لا شك فيه أن التحدي المرتسم أمام طهران إزاء الحظر الأميركي الوشيك للنفط الإيراني سيزيد من صعوبات طهران وسيضع سلوكها على المحك. سنشهد مواجهة تكتيكية إيرانية لاستراتيجية تصعيد العقوبات ضمن مناخ إقليمي موبوء بالنزاعات والتفكك، وسيحاول كل طرف تحسين أوراقه للعب دوره في مسلسل يلامس المسرح العبثي واللامعقول في منطقة أرادوا دوما إبعاد ديكارت ومنطقه عنها.
يقر الرئيس حسن روحاني بأن “الموقف كان صعبا على الناس في الشهور الأخيرة وقد يكون صعبا في الشهور القادمة أيضا”. لكن بالرغم من هذا الإقرار والاحتجاج الشعبي الذي بدأ منذ أواخر 2017، وشبح الانهيار الاقتصادي والضغوط والآلام المتوقعة، من المستبعد أن تبدل طهران سلوكها ونهجها الإقليمي راهنا. والأرجح أن الثنائي حسن روحاني- محمد جواد ظريف وبموافقة المرشد علي خامنئي، سيعتمد خطة مزدوجة قوامها انتظار طهران نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي في السادس من نوفمبر، إضافة إلى عملية حشد النفوذ الإقليمي. ومن الواضح أن دوائر طهران تعتبر الاستحقاق الأميركي اختبارا لقياس شعبية الرئيس دونالد ترامب واحتمال إعادة انتخابه عام 2020، وبناء على ذلك ستقوم بتقييم فرص الانخراط أو الاستنكاف في المفاوضات مع إدارة ترامب. في موازاة هذه الحسابات ستعمل طهران على التمسك بما تعتبره مكاسبها الإقليمية والسعي لاكتساب نفوذ يزيد من أوراق المساومة في أي مفاوضات مستقبلية.
نتيجة التجارب السابقة في المسلسل الطويل، تخطط إدارة ترامب للحصول على تحول فعلي في إيران تحت عنوان تغيير السلوك. ولهذا يعتبر أصحاب القرار في واشنطن أن الاستراتيجية الأميركية الحقيقية، تتمثل في تغيير النظام من خلال تحقيق انهيار اقتصادي كلي لإيران. وقد صرح المرشد الإيراني الأعلى مؤخرا بأن “ترامب تحدّث في الآونة الأخيرة مع أحد القادة الأوروبيين قائلا له إن الجمهورية الإسلامية ستنهار خلال الأشهر المقبلة.. لكن أحلامه هذه ستبقى أحلاما”. وتبعا لهذه المقاربة ينسبُ إلى مصدر إيراني رسمي كلام عن “عدم الإذعان والمواجهة على مدى أربعة عقود”، إلى أن” تتم العودة إلى حوار شبه متكافئ كما حصل بالنسبة للاتفاق النووي الأخير”. لكن في واشنطن أيا كانت الإدارات هناك مناخ من عدم الثقة حول احترام إيران لتعهداتها وحول نهجها الخارجي. ولهذا يستعد الطرفان لمبارزة ربما تكون أكثر جدية من المحاولات الأميركية السابقة للاحتواء أو التطويع.
في الأساس تستهدف استراتيجية ترامب شل النظام الإيراني عبر “التصفير النفطي” أي الوصول بالصادرات النفطية الإيرانية إلى المستوى صفر، في مسعى لإحكام الضغط الاقتصادي على النظام الذي يواجه اضطرابات داخلية، وشل قدرة إيران على جلب عائدات من صادرات النفط الخام لتستخدمها في توسعها الخارجي. لكن الأوساط الأميركية أخذت تقر بأن العقوبات أحادية الجانب ستلحق ضررا محدودا بالاقتصاد الإيراني، لكن إذا واصلت الهند والصين وتركيا شراء النفط الإيراني، وأوجدت أوروبا وروسيا وتركيا والعراق طرقا مبتكرة لتسهيل العمليات التجارية الإيرانية الأخرى، فستكون التأثيرات أقل حدة من العقوبات الأوسع التي كانت مفروضة قبل توقيع الاتفاق النووي. ولذا عشية موعد تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات تسرب واشنطن أنها ستوافق على السماح لثماني دول بالاستمرار في شراء بعض النفط الخام من إيران، وستشمل هذه الاستثناءات المؤقتة كوريا الجنوبية واليابان والهند وتركيا. ولذا يُتوقع أن تهبط صادرات النفط الخام الإيرانية إلى 1.15 مليون برميل يوميا بحلول نهاية العام، بدل نحو 2.5 مليون برميل يوميا في منتصف 2018.
انطلاقا من ذلك ستعمل إيران من خلال خطتها لاحتواء تصعيد العقوبات على ضمان تصدير كمية من النفط تكفي لتمويل “النفقات الضرورية” وضمان توافر العملة الأجنبية من الحد من تراجع العملة المحلية. ويعول الرئيس روحاني على هذا الالتفاف لكي يستعيد زمام المبادرة وربما العودة إلى التفاوض لاحقا، خاصة أن الأجهزة القريبة للمرشد الأعلى للنظام، وعلى رأسها الحرس الثوري الإيراني، تلقي عليه وعلى فريقه مسؤولية “توريط إيران في اتفاق نووي فاشل”.
بالنسبة للمراقب المحايد، سيكون من الصعب حصول إدارة ترامب على تغيير في سلوك طهران تحت ضغط العقوبات لأنه حين كانت العقوبات الأميركية واسعة النطاق ومصحوبة بالعقوبات الدولية، بين العامين 2011 و2015، كان الاقتصاد الإيراني في حالة ركود حاد، لكن ذلك لم يمنع طهران من الاستمرار في تدخلاتها في الإقليم وخصوصا لمساعدة نظام الأسد في سوريا. وكذلك بعد رفع العقوبات في أوائل عام 2016 تطبيقا للاتفاق النووي الإيراني، استمرت الأنشطة الإقليمية الإيرانية كما كانت قبل ذلك. ولذا هناك احتمال قوي بأن إعادة فرض العقوبات الأميركية من دون دعم دولي لن تتسبب في تقليص النفوذ الإيراني الإقليمي الخبيث حسب توصيف واشنطن.
بيد أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وسياسات إدارة ترامب أخذت بالفعل تخفف من المكاسب الإقليمية الإيرانية. ففي سوريا، تقلص الوجود الإيراني بالقياس إلى النفوذ الروسي الواسع واستبعاد طهران من محافل دولية حول الشأن السوري وآخرها قمة إسطنبول خير دليل على ذلك. وفي العراق تسلم طهران بالتعادل مع واشنطن ويتراجع نفوذها عمليا. ومن اليمن إلى لبنان يعاني المشروع الإمبراطوري الإيراني من انعكاسات المواجهات والحصار الاقتصادي.
على صعيد أشمل، تبدو أهداف الولايات المتحدة واسعة بشكل مفرط، وفي ظل عدم تعديل فعلي في موازين القوى الإقليمية ستستنكف طهران عن العودة للتفاوض وتلعب على وقع عامل الوقت في المناورة. ولكن عدم وجود حوافز تدفع إيران للجلوس إلى طاولة الحوار يمكن ربطه بالخوف من دفع فريق روحاني لكلفة سياسية باهظة، ولأن مجرد التنازل الجدي أمام واشنطن يمثل خروجا عن وصية الخميني وانقلابا داخل النظام الثوري تخشاه بقوة أوساط المرشد.
حسب الأوساط الفرنسية المتابعة جمدت طهران فكرة تحولها إلى قوة نووية لقاء الحصول على تنازلات اقتصادية. بيد أن حيازتها وتطويرها الصواريخ الباليستية وتوسعها الإقليمي، يُعتبران أساسيين في المقاربة التي تعتقد إيران أنها ضرورية للدفاع عن نفسها، وتبرر ذلك بالدروس المستقاة من الحرب الإيرانية-العراقية. ولذا لا تستبعد أوساط أوروبية أنه إذا ما تفاقمت الضغوط الداخلية، فمن المرجح أن تحاول طهران تجربة استفزازات جديدة بدلا من أن تقوم بتغيير السياسات الإقليمية أو أن تعود إلى طاولة المفاوضات. ويمكن أن تكون محاولات الاعتداء الأخيرة المنسوبة للاستخبارات الإيرانية في فرنسا والدنمارك ضمن هذا السياق.
على الصعيد الإقليمي، يمكن أن يدفع المأزق إلى تصعيد السياسات المتطرفة للنظام الإيراني عبر الاستفزاز في المياه الدولية، أو تزويد أطراف المحور الإيراني في لبنان والعراق بأسلحة نوعية. وفي المقابل لا يبدو أن في جعبة ترامب الكثير من البدائل، إذ أن “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” (أو الناتو العربي) لا يزال قيد التكوين ولأن عدم التنسيق مع أوروبا يحرم واشنطن من آلية ضغط محكمة. ومن هنا يشوب الغموض وقائع الحلقة الجديدة من مسلسل الأربعين سنة بين واشنطن وطهران، والأدهى أن يتحول هذا المسلسل إلى “دالاس” طويل لا ينتهي.