في زمن تصدع العولمة مع التخبط الاستراتيجي داخل النظام العالمي، سيكون من الصعب تحول أطراف المناورات إلى منطق قطبي الحرب الباردة السابقة.
يحتدم السباق بين الكبار على عسكرة الفضاء وتندلع الحروب الإلكترونية والحروب التجارية والحروب بالوكالة وكذلك الحروب غير المتكافئة تحت عناوين محاربة الإرهاب أو اكتساب النفوذ، وبينما تنهمك هيئات الأركان والاستراتيجيون في التحضير للمراحل اللاحقة من حروب الجيل الرابع والجيل الخامس، وصولاً إلى طائرات الجيل السادس، نلاحظ عودا على بدء لمناورات عسكرية ضخمة بالتوازي بين أطراف “الحرب الباردة القديمة”، وكأن ضرورات التعبئة الوطنية وإشباع نهم جماعات ضغط الصناعات العسكرية ضروريَّان لإبراز القوة الفظة وإزاحة الانتباه عن الفشل الداخلي، ولأهمية تحصين التحالفات أو إعادة إحيائها.
إزاء سباق التسلح الجديد وتخبط النظام الدولي يصح التساؤل إلى أين يذهب العالم وكيف ترتسم صراعات الحاضر والغد مع ما قدمته روسيا في الشهر الماضي، كأعظم مناورات أجرتها في تاريخها في شرق سيبيريا بدعم ومشاركة الجيش الصيني، وكذلك بعد إعلان حلف شمال الأطلسي عن تنظيمه نهاية أكتوبر الحالي في النرويج أكبر مناورة عسكرية له منذ نهاية حلف وارسو.
في الوقائع نحن أمام استعراضات قوة لا سابق لها ومتوازية بالرغم من عدم التكافؤ في الأرقام حيث أن مناورات “فوستوك- 18” (الشرق 18) الأكبر في تاريخ روسيا الحديث شملت 300 ألف جندي روسي و36 ألف دبابة وألف طائرة، وبمشاركة عسكريين صينيين ومنغوليين في سيبيريا الشرقية.
أما مناورات الناتو المزمع تنظيمها في النرويج على تخوم روسيا والمسماة “ترايدنت جنكتشر” فتضم حوالي 50 ألف رجل و150 طائرة ومروحيات و60 سفينة ونحو 10 آلاف مركبة. وفي نفس الوقت نظم الائتلافان مناورات بحرية. بالطبع، العنوان التقليدي لهذه التدريبات هو التأهب لأي مواجهة عسكرية محتملة في المستقبل، لكن الجديد أن موسكو من خلال جذبها الظاهري للصين وإعطاء الأهمية للبعد الآسيوي توجه رسالة عن إعادة تشكيل “توازن الرعب” لتجاوز هزيمة الحرب الباردة نهاية ثمانينات القرن الماضي. بينما تسعى واشنطن من خلال حشد حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا والبلطيق إلى تحذير روسيا من تكرار ما جرى في أوكرانيا وفي باقي الجوار الروسي.
بيد أن ممارسات السنوات الأخيرة زادت من الحذر لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتبر توسيع حلف الناتو يمثل “المسعى الأكثر عدائية للبنتاغون منـذ نهاية الحرب الباردة”، وزاد التباعد بعد الهجوم بغاز الأعصاب على الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال وابنته في بريطانيا في مارس الماضي، وبعد التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأميركية في 2016، والهجمات الإلكترونية الروسية على دول الناتو.
الغريب أن مبدأ صناعة العدو وتسميته يغيب بشكل مباشر عن المناورات الهائلة في خريف 2018 ويسود مفرد “العدو الخيالي” ويتم تبادل المعلومات عن التدريبات وطمأنة الطرف الآخر، لكن نائب وزير الدفاع الروسي أندريه كارتابولوف لم يخفِ أن الهدف من هذه المناورات هو أن تتسنى لما أسماه “شركاءنا” رؤية قدراتنا على مسارح الحروب وتلقي الرسالة. بيد أنه خلف اللياقات الدبلوماسية ولجم التوتر، يتهم حلف شمال الأطلسي روسيا بتطوير نظام صواريخ كروز جديد يمكن أن يصل إلى دول البلطيق على وجه الخصوص، في انتهاك لمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وسيجعل ذلك من منطقة جوية كاملة مطلة على بحر البلطيق شبه مغلقة على طائرات الناتو، وفي نفس السياق حذر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس من”السلوك الروسي الخبيث” وحث الدول الأوروبية على زيادة ميزانيات الدفاع.
لكن وفقًا لموسكو ينتهك حلف الناتو، بدوره، معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى انطلاقاً من قاعدة الدفاع الجوي في رومانيا، مع الخشية من تنفيذ الأميركيين سلاح الضربة الأولى عبر صواريخ توماهوك كروز متنكرة في شكل دفاع صاروخي. ولذا أعرب بوتين عن أسفه في يوليو الماضي على “إعادة تسليح القارة الأوروبية تحت زخم الناتو”، محذراً من “الرهان على معاناة روسيا من العقوبات، محاولة ضم أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو والنظر في العواقب المحتملة لمثل هذه السياسة غير المسؤولة”.
بالرغم من ضخامة المناورات العسكرية وسباق التسلح الجديد، لا يمكن مقارنة العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والعلاقات بين روسيا والناتو بما كانت عليه أثناء الحرب الباردة. يبتعد التوتر الحالي كل البعد عن الصراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تميزت بمواجهة أيديولوجية أساسية ومقولة الستار والتهديد الدائم بالكابوس النووي. بيد أنه يتوجب عدم الاستخفاف بمخاطر اختبارات القوة الدائرة من الجوار الروسي إلى بحر الصين الجنوبي وقوس الأزمات من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا وشبه القارة الهندية.
في زمن تصدع العولمة مع التخبط الاستراتيجي داخل النظام العالمي، وآثار حروب الثورة الرقمية واحتدام الحروب الاقتصادية، سيكون من الصعب تحول أطراف المناورات إلى منطق قطبي الحرب الباردة السابقة، لأن الصين لن تسلّم بالقيادة العسكرية الروسية وتفضل نهج “القوة الناعمة” ولأن المصالح العملية تتباعد بين كبرى الدول الأوروبية من جهة والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى.
ستزداد الضغوط الاقتصادية واستخدام العقوبات لاحتواء الصعود الروسي. وتركز الأوساط الغربية على أن استعراض القوة الروسية لن تمنع صعود النقمة الداخلية (تراجع الحريات، تكاثر الفقر، زيادة الإدمان على الكحول والمخدرات، والانهيار الديموغرافي مع موت مليون شخص سنويا، وتسجيل نسبة جرائم عالية). في الأرقام أيضا لم يؤدِّ قرار الكرملين تطوير الترسانة الاستراتيجية منذ 2012 وزيادة ميزانيات الجيوش وتحديثها إلى تسهيل المبارزة مع قدرات حلف شمال الأطلسي وميزانيته الضخمة وتغيير ميزان القوى.
على ضوء توازنات هشة وحسابات عودة الأمجاد والانزواء نحو الهويات الوطنية والفئوية القاتلة، وتطوير حروب المعلومات وتفكيك نسيج الشعوب والدول، سيستمر الكبار في الإنفاق على التسلح وخوض حروب النفوذ بالوكالة لتأمين دوام السيطرة على عولمة غير إنسانية أكثر من أي وقت مضى.