بوتين تراجع في الظاهر عن ردة فعله الأولية المهدئة من خلال “تحميل المسؤولية لتسلسل مأساوي للظروف”، إلى تبني وجهة نظر جنرالاته حول وجوب الرد على ما أسموه “التحدي الإسرائيلي”.
تمكنت روسيا منذ تدخلها المكثف، نهاية سبتمبر 2015، في سوريا من تنظيم تقاطعات مع إيران وإسرائيل وتركيا، أتاحت لها إحراز نجاحات عسكرية وفرض ما يشبه الانتداب. لكن يتبيّن أن “الانتصار” الروسي لن تقرّه واشنطن من دون حل مشكلة الوجود الإيراني العسكري. وزادت الأمور تعقيدا مع إسقاط طائرة استطلاع روسية “إيل- 20” في 17 سبتمبر الجاري قبالة اللاذقية، وتحميل وزارة الدفاع الروسية القوات الجوية الإسرائيلية المسؤولية عن الحادث وبشكل “متعمّد”.
ولم تتأخر التداعيات بالبروز مع إعلان موسكو عن تزويد النظام السوري بصواريخ أس-300، وعن قرار التشويش على الطائرات التي ستقترب من الشواطئ السورية. ويحمل ذلك في طياته تهديدا ممكنا لمجمل العلاقة الروسية-الإسرائيلية إذا لم يتم ترميم ترتيبات سبتمبر 2015، خاصة إذا تحول تركيز منظومات الدفاع الجوي الجديدة إلى أزمة صواريخ شبيهة بتلك التي شهدها لبنان عام 1981 قبل سنة من الحرب الإسرائيلية عليه. بيد أن البعد العالمي لأي احتكاك أو مجابهة بين الطرفين يمكن أن يحدّ من هامش مناورة إسرائيل في الأجواء السورية، لكنه سيزيد بشكل مباشر وغير مباشر من الاحتقان الإقليمي والدولي في المشرق، ويهدّد أيضا الدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط.
من الناحية العملية، كشف هذا التطور أمورا كان البعض يريد إنكارها والبعض الآخر تضخيمها أو كانت تبدو مستورة، وأبرزها تفاهم فلاديمير بوتين – بنيامين نتنياهو الذي جرى التوصل إليه قبل بدء الحملة الجوية الروسية منذ ثلاث سنوات، وقوامه تنسيق عسكري متزايد حول الغارات الجوية الإسرائيلية في سوريا، وعدم الاحتكاك بين الجانبين عبر إنشاء خط اتصال مباشر ينطق باللغة الروسية وإجراء تدريبات جوية مشتركة.
لكن هذا التفاهم الذي أخذ يهتز منذ إسقاط مقاتلة إسرائيلية من قبل الدفاعات الجوية السورية في مارس 2017، وبعد تعرضه لخروقات كبيرة بين فبراير ومايو 2018، يشهد أقسى اختبار مع سقوط الأليوشن ومصرع 15 عسكريا روسيا على متنها. لكنه يؤكد سقوط افتراض شائع عن التنسيق المحكم بين سلاحي الجو الروسي والإسرائيلي استنادا إلى الجدل حول مدة الإبلاغ المسبق عن الغارة الإسرائيلية في 17 سبتمبر بالقرب من القواعد الروسية على الساحل السوري، وعدد المرات التي أبلغت فيها إسرائيل عن غاراتها. والافتراض الآخر الذي تبيّن عدم صحته أو عدم فعاليته هو الربط بين شبكة الدفاع الجوي الروسي وشبكة دفاع الجيش السوري.
إزاء هذا الحادث، اعتبرت العسكريتاريا الروسية أن هيبة روسيا اهتزت، وكانت ردة فعلها حانقة وبرز ذلك مع استخدام وزير الدفاع سيرغي شويغو مصطلح “الرؤوس الحامية” ومنطق التهديد، ويبدو أن بوتين تراجع عن ردة فعله الأولية المهدئة من خلال “تحميل المسؤولية لتسلسل مأساوي للظروف”، إلى تبني وجهة نظر جنرالاته حول وجوب الرد على ما أسموه “التحدي الإسرائيلي”.
في المقابل يبدو الجانب الإسرائيلي في موقف محرج حيث يتبع حينا سياسة “النعامة” عبر رفض أي تصعيد إعلامي يخدش العلاقة المنتكسة، ويؤكد حينا آخر على تصميمه الاستمرار في مقارعة الوجود الإيراني في سوريا مهما كانت الكلفة.
تتسارع الأحداث مع بدء روسيا تنفيذ قراراتها مع وصول طائرات “إيل- 76” إلى قاعدة حميميم حاملة أولى مجموعات وسائل الحرب الإلكترونية. وربما معدات منظومة “أس- 300”، وعلى ما يبدو لم يسهم التنديد الأميركي والاستنفار الإسرائيلي في ثني موسكو عن المضي في خططها. ويتضح أن حقبة من التوتر تلي حقبة التواطؤ الثنائي بين روسيا وإسرائيل، إذ يجدر التذكير بتصريح في أكتوبر 2015 لأحد مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي قال فيه إن “الشراكة الروسية مع إيران وحزب الله لإنقاذ الأسد ليست بالضرورة سيئة لنا”، ولم يكن ذلك مستغربا لأن إسرائيل تمتعت بعلاقات وثيقة مع روسيا بوتين، وكانت أول بلد زاره بعد إعادة انتخابه عام 2012، إذ كانت روسيا أكبر مورد للنفط الخام إلى إسرائيل التي يقطنها أكثر من مليون مواطن من الناطقين بالروسية، ثالث لغة في إسرائيل بعد العبرية والعربية. وبالإضافة إلى ذلك يقول مصدر روسي موثوق “تمثل إسرائيل الجسر الاحتياط لأوليغارشية الكرملين وخزينتهم السرية”، والطابع المالي لهذه العلاقة المتشابكة بشريا وسياسيا يعززه لوبي روسي موال لإسرائيل ودور إسرائيلي في شؤون العلاقة الأميركية- الروسية. بناء على هذه المعطيات يصعب على الفريقين الوصول إلى حد القطيعة ويرجح نسج تفاهم جديد حول “الخطوط الحمر” بينهما في سوريا.
ليس هناك شك في حرص الجانب الروسي على صيانة إنجازاته على الساحل الشرقي للمتوسط والتي أعادته إلى المسرح الدولي، وهاله أن تنكسر هيبة جيوشه ومنظومات دفاعه في مختبره السوري أو في المعرض – الواجهة لتسويق أس-400 وغيرها من الأسلحة. ومن هنا بدا اهتمام بوتين بمراعاة جنرالاته ورفضه استقبال قائد سلاح الجو الإسرائيلي لرفع معنوياتهم، خاصة بعد تداول إشاعات عن عدم قدرة منظوماته على رصد الطائرات الإسرائيلية وعن نجاحات غربية في الحرب الإلكترونية ضد الأسلحة الروسية ومنظومات دفاعها الجوي. وهذا ما يفسر الحد الأقصى في الضغط الروسي على إسرائيل للملمة الوضع وعدم الذهاب بعيدا في تحدي الآلة العسكرية الروسية.
يصح التساؤل اليوم عما إذا كانت ضمانات روسيا لعام 2015 لإسرائيل لا تزال سارية المفعول، وسيكون الاختبار عند قيام إسرائيل بضربات مستقبلية ضد الأراضي السورية، حيث يمكن أن تكون الكلفة مرتفعة في حال نشر منظومة أس-300 وتشغيلها من قبل عسكريين روس يمكن أن يتعرضوا للأذى. وهذا الاحتمال سيضع العلاقة الثنائية في مهب الريح وسيقلل من عدد خيارات نتنياهو ويدفعه أكثر إلى أحضان الأميركيين الذين لن يسمحوا بتشريع “الانتصار الروسي” في حال عدم التزام روسيا بإزالة الوجود الإيراني العسكري على الأراضي السورية.
يمثل القرار الروسي حول أس- 300 رسالة لإسرائيل لتذكيرها بشروط الاتفاق بينها وبين موسكو، وحثها على إبلاغ القوات الروسية بتحركاتها بما يكفي من الوقت مُسبقا بحيث يتم تفادي مثل الحادث الذي حصل. لكن تطويق المضاعفات في تغيير قواعد اللعبة ليس بالأمر اليسير، وربما يقود إلى اختبار قوة أو مجابهة محدودة يمكن أن تكون بداية لإنهاء التقاطعات التي أدارتها روسيا تحت العين الأميركية الساهرة، وبدء مسار كسر الحلقة الجهنمية في اللعبة الكبرى، لأن الحلف الروسي – الإيراني لا يبدو متينا ولأن اتفاق إدلب الروسي – التركي يمكن أن يتعرض للاهتزاز. والأدهى أن يكون حادث إسقاط الطائرة الروسية المدخل لتصفية حسابات إقليمية أو حسابات خاطئة تصيب بشراراتها لبنان.