هناك في لارنكا، يحضن موج المتوسط طقوساً تصهر فحم الإيمان الخالص بالحب كونه انعكاساً لإرادة راشدَين قررا ان يجتمعا بعقد يلزمهما السير معاً في السراء والضراء، وذلك من دون ان يسيئا الى أي كان، على رغم انهما معرضان لتحمل اساءات طالعة من ديكتاتوريات تلتحف بالنظام الديني، ومن سلوكيات اجتماعية يغرق أصحابها أكثر فأكثر في وحول العنصرية وفي تطرف يفرض رفض كل من ليس على شاكلتهم حتى لو كان من عظام الرقبة.
هنا في لبنان، الذي لا يجيد احتضان موج المتوسط، فيقتل زرقته بكل ما أوتيَ من تلوث وفساد، حيث الحرب على الحب وعلى التلاقي بين الطوائف، مهمة مقدسة تحول دون انصهار يبدأ بالحقوق الاساسية للانسان وبكرامة الفرد، لأن هذه الحرب الوقائية تقطع الطريق ليس فقط على بقاء اللبنانيين رهائن المؤسسات الدينية ومفاعيل احوالها الشخصية، وانما على نسف أسس الأحزاب المرتكزة على المذاهب يحرّض قادتها جماعاتهم ويحقنونهم بالحقد على الآخر ورفضه والخوف منه والجهوزية للقضاء عليه معنوياً عندما يستحيل القضاء عليه جسدياً.
صحيح ان الزواج المدني خارج لبنان يتم تسجيله في الدوائر الرسمية المختصة، ما يبقي خياره مفتوحاً لمن يلجأ اليه، لكن الصحيح ايضاً ان شرط ركوب الطائرة لعقد هذا الزواج المدني، ترف لا تستطيعه الا فئة قادرة الى حد ما على دفع تكاليفه، اما الغالبية من عامة الشعب، فإمكاناتها تحول دون السفر والإقامة في الفنادق لتمارس حقاً تمّ اقراره في شرعة حقوق الانسان، كما في الدستور اللبناني، ليبقى تطبيق هذا الدستور استنسابياً وفق شبكة المصالح إياها.
لو ان اهل السلطة عندنا، الذين يصرح بعضهم بحق الانسان في اختار رفيق دربه من خارج الاصطفاف الطائفي، ويقرّ في المناسبات ومن خلال التصريحات بأن جميع الناس احرار متساوون، لو ان لدى هؤلاء اقتناعاً ويتمتعون بصدقية تبرهَن بتطبيق ما يقولون، لكان بالامكان البحث عن صيغة تسمح للناس جميعاً، ووفق الدستور اللبناني، بممارسة حريتهم وتطبيق مساواتهم.
ففي مقدمة الدستور اللبناني، تنص الفقرة ج على ان “لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز او تفضيل”.
كذلك نقرأ ان “أعمال السلطة التنفيذية يجب أن تتوافق وأحكام الدستور، والا اعتبرت غير مشروعة. ويضطلع القضاء بمهمة مراقبة احترام هذه السلطة لأحكام الدستور، ولأحكام القوانين القائمة الأخرى، وعلى السلطة التشريعية أن تحترم أحكام الدستور أيضاً، فلا تستطيع اصدار تشريعات مخالفة له. واذا ما أقدمت على ذلك، فإن التشريعات الصادرة تعتبر غير مشروعة وواجبة الإبطال والإلغاء”.
لكن من ينفذ؟ لا أحد. حتى ان المتنطحين للتغني بكل شعارات المجتمع المدني، ولغايات يعقوبية سلطوية، رفضوا إقرار زواج مدني لبناني عقده قاضٍ شرب حليب السباع مستنداً الى الدستور. اما أهل السلطة، فحجتهم دائماً هي ان الظروف غير ملائمة. والظروف تعني بالطبع عدم إغضاب القيمين على المؤسسات الدينية.
لكن اذا صفت النيات، فقد يمكن إيجاد بقعة ما، حيادية قدر الإمكان، ليتم عقد الزيجات المدنية فيها، فلا تغصب السلطات الدينية الساكتة عن تسجيل الزيجات المدنية في الدوائر الرسمية. لِمَ لا تتتولى شركة بواخر سياحية، كالتي نراها أينما كان بحر وشاطئ، ليصار الى عقد الزواج في المياه الإقليمية ربما، او استخدام الأراضي التي تفصل لبنان عن سوريا بعد نقطة المصنع، او بضعة جسور على مجرى النهر الكبير الجنوبي في شمال لبنان، حيث ينشط التهريب تتولاه الحمير، لينشط في موازاتها، بناء أسر على سبيل التغيير، او سلسلة من العقارات المتداخلة بين سوريا ولبنان في منطقة القاع. الأكيد ان هذه المشاريع لها مردودها السياحي الى جانب المردود الاجتماعي وإلغاء الحدود بين الطوائف للمساهمة في الانصهار الوطني الذي لا يريدون له ان يتحقق.
او ان مثل هذا الاقتراح الذي يبدأ بحق كل اثنين بزواج لا إكراه فيه، يقضي على تركيبة بأمها وأبيها، قائمة على التكاذب. أهم ما فيها زواج المصالح البعيد كل البعد عن الحب والمودة، الامر الذي يجعل وظيفة وثائق التعاون والتفاهم بين الأحزاب الطائفية اللبنانية، مقتصرة على تحالفات تطيح الخصوم وتسمح بالاستقواء وتضع المريدين في انفصام بين الهدف الانتهازي وفعل التواصل والتقارب الفكري. والا لكنا شهدنا مباركة زيجات بين أفراد أصحاب الأحلاف المقدسة.
لكأن الشرط الوحيد الأساسي وغير المعلن في هذه التحالفات، هو ان لا تصبح عابرة للطوائف. والهدف هو استعباد الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
sanaa.aljack@gmail.com
النهار