يشن دونالد ترامب، وإدارته، حرباً مفتوحة على الفلسطينيين شعباً وقضية. هذه الحرب ليست سوى ترجمة حرفية لكل ما يشتهي اليمين الإسرائيلي، وبنيامين نتانياهو على وجه الخصوص. وعلى كل باحث عن حقيقة ودوافع وأيديولوجيا ترامب وإدارته إزاء الفلسطينيين شعباً وقضية العودة إلى ما طرحه نتانياهو في كتاب نشره قبل قرابة عقدين بعنوان: “سلام دائم، إسرائيل ومكانها بين الأمم“.
ترامب لا يحب اليهود، ولا يحب أحداً، في الواقع، فمعبوده الوحيد هو دونالد ترامب. ولا يجب أن نتكلّم عن يوم قادم يسأل فيه ما لا يحصى من الأميركيين، والناس في كل مكان آخر: كيف ولماذا صعد شخص كهذا إلى سدّة الحكم؟ فهذا سؤال الناس الآن، الآن، وليس غداً، في أميركا، وفي كل مكان آخر.
ولن نتمكّن من طرح سؤال من نوع: ماذا نجم عن وصول شخص كهذا إلى البيت الأبيض من أضرار لحقت بأميركا وبقية العالم؟ فحجم الضرر لم يتضح بصورة نهائية بعد، فلا يكفي الكلام عن مخاطر انهيار الديمقراطية الأميركية، ولا عن تهديد أمن العالم وسلامه، وهي أشياء تحدث الآن، بل يجب التفكير في احتمال أن الأسوأ لم يتضح بصورة كافية بعد.
على أي حال، هذا الشخص طائش، جاهل، قليل الأدب والحياء، ولا يدرك عواقب أفعاله. وهذا ليس كلامي بل كلام مسؤول كبير في إدارته كما جاء في مقالة نشرها بلا توقيع في نيويورك تايمز، قبل أيام. ويوم أمس هددت إدارته بملاحقة قضاة المحكمة الجنائية الدولية، بما يعني أن منطق البلطجة الصريح، والفصيح، والقبيح، هو الفيصل في العلاقات الدولية الآن.
والواقع أن الفلسطينيين، شعباً وقضية، في وضع لا يُحسدون عليه. ففي الإدارة، كما في المعارضة، وفي أوساط الجمهوريين أنفسهم، مَنْ يتبنى مواقف مغايرة بشأن المناخ، والعلاقة مع روسيا، والأمن في أوروبا، والتجارة الدولية، والهجرة والمهاجرين، إلا أن أحداً من هؤلاء لا يتحفّظ بطريقة حاسمة على سياسة ترامب إزاء الفلسطينيين، سواء تعلّق الأمر بنقل السفارة، أو وقف المساعدات للأونروا، والسلطة، وأخيراً وليس آخراً بإغلاق مكتب منظمة التحرير. والأسوأ من هذا وذاك أن موقف ترامب من الفلسطينيين شعباً وقضية من أوراقه الانتخابية الرابحة، ولا ينطوي على مجازفة محفوفة بالمخاطر.
ورقة رابحة بمعنى أن قطاعاً واسعاً من ناخبيه، خاصة في أوساط المسيحيين الإنجيليين، يمكن أن يغفر له هفوات شخصية وأخلاقية كثيرة مقابل حماية إسرائيل، وتحقيق مطالبها، بطريقة تفوّق فيها على كل الإدارات السابقة. أما المجازفة غير المحفوفة بالمخاطر فتتجلى في حقيقة أن علاقته بالأنظمة القائمة في العالم العربي قوية، بل ربما كانت الأفضل بين كل علاقاته الخارجية، ولا مبرر للخوف على مستقبل علاقة كهذه، بصرف النظر عمّا فعل، وما قد يفعل.
ومع ذلك قد تفقد الحرب المفتوحة على الفلسطينيين، شعباً وقضية، الكثير من زخمها في حال نجاح الديمقراطيين في تشكيل أغلبية في مجلسي الشيوخ والنوّاب بعد الانتخابات النصفية الأميركية في نوفمبر القادم. وإذا تحقق أمر كهذا يمكن التفكير في احتمالات تبدو واقعية تماماً من نوع: عزل ترامب، أو إرغامه على الاستقالة، وقد ينتهي به الأمر، وبعض معاونيه، وراء القضبان في سجن ما. وبهذا المعنى، لا يبدو من قبيل المبالغة القول إن مصائر أشياء وقضايا كثيرة، في أميركا وخارجها، مرهونة بنتائج تلك الانتخابات.
ولنفكر في احتمالين: نجاح الديمقراطيين، أو نجاح الجمهوريين، من أنصار ترامب. في الحالة الأولى من الأفضل التفكير في فقدان الزخم، لا في انقلاب عاجل وسريع على كل ما فعله حتى الآن. وفي الحالة الثانية استمرار الحرب المفتوحة في محاولة لإخراج المسألة الفلسطينية نفسها كما عرفها وعرّفها العالم حتى الآن، سواء في الإقليم، أو المجتمع الدولي، من التداول.
ولا ضرورة، في سياق هذا كله، للتفكير في النجاح أو الفشل، فلا أحد ينجح تماماً، أو يفشل تماماً، في وضع كهذا، كل ما في الأمر أن واقعاً جديداً ينشأ على أنقاض واقع سبق، وكل ما في الأمر أن الفلسطينيين، شعباً وقضية، لن يخرجوا لا من الجغرافيا، ولا من التاريخ.
وتبقى احتمالات لا ينبغي إسقاطها من الحسبان: مثلاً، في مجرّد تحويل كتاب من نوع “سلام دائم“ إلى خارطة طريق لترامب، الذي يمثل كل ما لا ينبغي، ولا يليق أن يكون، في نظر ما لا يحصى من الأميركيين ما يضع علامات سؤال كثيرة حول الرصيد الأخلاقي لإسرائيل في أوساط الليبراليين الأميركيين أنفسهم، بما فيهم اليهود، وبقية معارضي الترامبية في كل مكان آخر من العالم. لم يبقَ الكثير من رصيد كهذا.
وبالقدر نفسه، لم يبقَ الكثير من عمر الإمبراطورية الأميركية بعد ترامب. فأميركا تزّعمت الغرب باسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويمكن لأميركا الترامبية أن تجد في الغرب، وفي كل مكان آخر، حلفاء يشبهونها، وهذا في ذاته يكفي لتكوين عصابة، ولكنه لا يمثل قاعدة سياسية وأخلاقية تمنح الإمبراطورية مزيداً من فرص البقاء.
الخلاصة، ولنفكّر في الصورة الكبيرة، في الحرب المفتوحة التي يشنها تاجر عقارات، ومريض بنفسه، على الفلسطينيين، شعباً وقضية، ما يستدعي، وما ينبغي أن يعيد التفكير، في حقيقة أن في كينونة الشعب، والقضية، على مدار عقود طويلة ما يختزل صورة العالم، وأن في الحرب التي يشنها عليهم ما ينطوي على حرب مفتوحة على قيم كونية، ونبيلة، أيضاً.
khaderhas1@hotmail.com