“الثورة ام الاصلاح”، سؤال تاريخي واجهته جميع الشعوب في مختلف بقاع الارض وفي كافة الازمنة عندما ابتليت بسلطات استبدادية فاسدة. جوابه كان دائما متوقفا ليس على رغبات الناس او النخب السياسية او الاجتماعية او الثقافية عموما، لكن خاضعا في معظم الاحيان للظروف الموضوعية لكل بلد عندما يصبح الخيار مطروحا.
من جهة اخرى لا يمكن ان يوضع الخياران بشكل متقابل دائما، حيث ان للاصلاح الاولوية في المسيرة الطبيعية لتاريخ الانسانية، فيتم بشكل طبيعي في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، مواكبا للضرورة التي يحتمها تطور وتجدد المجتعات. او يمكن ان يعلق او يعاق في بلدان استبدادية تتضرر مصالح حكامها من استمراره، بحيث يتوقف الاصلاح جزئيا او كليا. عندها تصبح الثورة لازالة هذه العوائق امراً تفرضه الوقائع القائمة لاعادة سير عملية الاصلاح الى سيرها الطبيعي في جوانب المجتمع المختلفة او في احد جوانبها. فالثورة ليست هدفا بحد ذاته ولكنها عملية تيدو ضرورة تاريخية عندما يصبح الاصلاح لمواكبة العصر امرا مستحيلا او شديد الصعوبة.
لقد شهدنا مؤخرا الثورات الشعبية التي اندلعت في اكثر من بلد عربي واسبابها الرئيسية هيمنة الانظمة الاستبدادية فيها على السلطة والثروة واعاقة اي اصلاح جذري لنظمها. فيما دول عربية اخرى تقوم باصلاحات جزئية بطيئة غير كافية لفتح الابواب للتطور والتقدم لصالح شعوبها وحقوقهم الاساسية التي اقرها الاعلان العالمي لحقوق الانسان. من هذه الدول المملكة السعودية التي تحكمها بشكل مطلق عائلة آل سعود منذ حوالي القرن فتهيمن على السلطة والثروة من خلال امرائها الذين لا يقل عددهم عن 7000، منهم حوالي 200 الاكثر تحكما بمفاتيح السلطة والثروة، احتكروا معظم مناصب الدولة الاساسية، وبقي فيها بعضهم عدة عقود، مثل الملك عبد الله قائد الحرس الوطني من العام 1963 حتى 2010 او الامير نايف وزير الداخلية من 1975 حتى وفاته 2012.
تتحالف السلطة الملكية المطلقة مع المؤسسة الدينية التي تقودها هيئة كبار علماء الدين، التي هيمنت على المجال القضائي والتعليمي والسلوكي والاخلاقي العام باسم ان السعودية، التي لا دستور لها، تحكم حسب الشريعة الاسلامية، القرآن والسنة النبوية كما يفسرها العلماء لخدمة مصالح العائلة المالكة ومصالحهم. وللهيئة جهازها القمعي “للنهي عن المنكر” الذي يستعمل العصي ليدل الناس على الطريق القويم. السلطة الملكية بحاجة للمؤسسة لاعطاء الشرعية الدينية لسلطتها وقوانينها. العلاقة في التحالف متقلبة ولكن مائلة لصالح السلطة الملكية الاقوى والتي فضلت مؤخرا التقليص من سلطة المؤسسة الدينية في القضاء والتعليم، ليتحولوا من حليف الى ما يشبه اداة تبرير ديني لسياسات النظام الملكي لا يستغني عنها. السلطة المطلقة لا تسمح بقيام اية احزاب او جمعيات مجتمع مدني او نقابات او اتحادات، ولا انتخابات عامة لمجالس تمثيلية الى ان تم تشكيل المجالس البلدية التي تتوزع بين منتخبين ومعينين بمهام محدودة ، وما يقال عنه مجلس شورى من منتخبين ومعينين من الملك ايضا، مهمته فقط اعطاء المشورة للملك الذي يقرر في النهاية من خلال الديوان الملكي وليس الوزارة، كل شؤون البلد. كما تمارس السلطة المطلقة تمييزا ضد النساء، اذ يعتبرن مواطنات من الدرجة الثانية، وتسلط عليهم الذكور بالتعاون مع علماء الدين في نظام “الولاية” المحكم. بالاضافة لتمييز طائفي ضد الشيعة السعوديين الذين تبلغ نسبتهم حوالي 10%، في كافة المجالات، فالمؤسسة الدينية تعتبرهم خارجين عن الدين الاسلامي. وتمييزا دينيا ضد المسيحيين الوافدين من دول اخرى للعمل في السعودية، حيث يمنعوا من بناء كنائسهم وممارسة شعائرهم الدينية. بالاضافة لمنع ثقافي، بلا قرارات من المحاكم، لكتب وندوات ومحاضرات وبرامج تلفزيونية. ومحاكمات غير عادلة بلا استناد لقوانين عادلة او اجراءات تقاضي سليمة. وتقدر المنظمات الحقوقية عدد معتقلي الرأي السعوديين ب 30 الفا. وحصلت السعودية على المرتبة 141 في “مؤشر حرية الانسان” العالمي الصادر عام 2015.
كان لابد من هذه المقدمة لمعرفة الوضع الراهن الذي يسعى “مصلحون” على اختلافهم، لاصلاحه. الليبراليون السعوديون حددوا في وثائقهم، التي اعتقلوا بعد اصدارها، الخطوط العريضة التي يجب البدء فيها لاصلاح حقيقي وجذري عصري متوافق مع حقوق الانسان العالمية، وهي اصدار دستور متوافق عليه يعزز دولة القانون ويؤمن المساواة بين المواطنين دون تمييز على اساس الجنس او الدين او الطائفة او القومية، اقرار الحريات العامة وانتخاب مجالس تمثيلية تشريعية تراقب وتحاسب السلطات التنفيذية، الفصل بين السلطات الثلاث، استقلال القضاء، حرية تشكيل المنظمات السياسية والاجتماعية والنقابية والمدنية، اسقاط نظام الولاية عن المرأة واعطائها حقوقها وحرياتها ومساواتها بالرجل، المشاركة الشعبية في السلطة وملكية دستورية تفصل مجلس الوزراء عن الملك.
النظام من جهته يسعى للاصلاح ضمن حدود معينة لا تفقده هيمنته على السلطة والثروة في البلاد، فمن الصعب، بل ربما من المستحيل، ان يبقي الوضع الراهن على ما هو عليه لاسباب عديدة، منها الضغط الداخلي لمعارضي النظام والجماعات المتضررة من النظام الحالي والغرق في حرب اليمن، واستباقا لما حدث في دول الربيع العربي والجو العام للمنطقة القابل للتقليد، حيث تنتشر افكار الحرية والتغيير والانتفاض والاحتجاج وغيرها، بالاضافة لضغوط الامم المتحدة والدول الغربية الحليفة التي تخجل امام شعوبها من السكوت عن نظام استبدادي حليف لها لحاجتها لنفطه واستثماراته في بلادها واستثماراتها فيه، واكبر مثال الازمة الكندية السعودية حيث ان نقدا خجولا في تويتر ادى لقطع كل ما يربط كندا بالسعودية، الذي يدل على مدى خوف النظام من الاصلاح الحقيقي ومدى خوف دول غربية من فقدان مصالحها الاستراتيجية في الخليج.
فلكي لا يفقد النظام الملكي هيمنته على السلطة والثروة قام ويقوم باصلاحات منتقاة بحيث ترضى بعض الاطراف الداخلية او العالمية ولكن لا تصل الى حد تهديد سلطته وثروته. مثل تقليص صلاحيات لجنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحويلها للشرطة، الدعوة للعودة للاسلام المعتدل في مواجهة متشددي هيئة العلماء الذين يحبذون التمسك الكامل بالمفاهيم الدينية حسب التفسير الوهابي المتطرف، انتخابات بلدية مع تعيين، السماح للمرأة بالترشح والانتخاب، تعيين وزيرة امرأة لاول مرة، توسيع المجلس الاستشاري المنتخب والمعين من الملك، يدء محاولات لاقصاء المؤسسة الدينية عن القضاء والتعليم، اصلاح المناهج التعليمية التي كانت يشكل ما تساعد في تخريج متطرفين تجد المنظمات الارهابية طريقها لتجنيدهم، السماح بافتتاح دور السينما والمسرح والسماح للمرأة بقيادة السيارة وحضور مباريات كرة القدم، القاء القيض على عدد من الامراء بعد انشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، خطة 2030 الاقتصادية لعالم ما بعد النفط عند نفاذه او تراجع اهميته كوقود لتوفر البدائل، فالسعودية التي تعتمد منذ ستين عاما على النفط الذي يشكل 80% من الدخل القومي، بحاجة لاقتصاد متنوع قائم على سوق حرة يوفر فرص الاستثمار العالمية.
لا يمكننا الا ان نؤيد هذ الاجراءات التي قام بها النظام السعودي او سيقوم بمثلها مستقبلا تحت ضغط الظروف الداخلية والعربية والاقليمية والدولية، رغم ان النظام يريدها كتجميل يخفي اليد الحديدية للسلطة الملكية المطلقة، دون ان نقع في خطأ تصور ان هذه الخطوات هي الاصلاح الحقيقي الجذري المطلوب لتحويل السعودية الى دولة حديثة تعمل حكومتها المنتخبة لصالح الشعب الذي اتى بها. فعادة اية اصلاحات آتية من فوق من نظام استبدادي لا تصل الى حدود مواقف وسياسات وتعديلات تضر بهيمنة النظام المطلقة، بل تنازلات في المجالات الثانوية وليس الرئيسية التي تغير طابع النظام وتضعف من القوى السائدة فيه. ومن المعروف في المثل الدارج ان “الشيطان لا يقلع مخالبه بنفسه!”.
برأيي ان مستوى الوعي الشعبي السعودي حاليا لم يصل بعد الى الحد الكافي لادراك ضرورة التغيير الجذري المطلوب، وهي عملية لن تطول كثيرا بعد الانفتاح العالمي الاعلامي والالكتروني الذي جعل المعرفة في متناول الجميع. بالاضافة الى ان المحيط بالسعودية من دول تسعى شعوبها للاصلاح والتغيير لم تقدم بعد نموذجا يقتدى به للاصلاح الجذري الديمقراطي العلماني. فلا يزال الاسلام السياسي والمنظمات الارهابية والانظمة الاستبدادية او النصف استبدادية تتصدر المشهد السياسي العربي.
ahmarw6@gmail.com
* مداخلة قرأت في ندوة مجموعة “اعلان دمشق” باللاذقية عن الاصلاح السعودي