لم تعد “حرب الفضاء” مجرد مصطلح يرتبط بالخيال العلمي والسينما، لكنه بات قريبا من الواقع بسبب الجهود التي تبذلها الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية في السباق إلى عسكرة الفضاء. ويندرج ذلك خصوصا في سياق تجاذبات وصراعات السيطرة والنفوذ بين القوة الأميركية العظمى والتنين الصيني، والذي سيحتدم في السنوات القادمة إن لجهة الحروب التجارية أو المنافسة في البحر والهيمنة على الفضاء، وفِي الخلفية تخوف أميركي من مسار صيني نحو الغلبة والتفوق بحدود 2030-2035.
لا يمكن مقاربة المشهد العالمي المعاصر من دون الإحاطة بحجم التنافسية والسياسة الحمائية الجديدة في ظل تصدع العولمة بنسختها الليبرالية الفاقعة وبروز قوى قتصادية واستراتيجية صاعدة وتبدل في موازين القوى بين الكبار. بعد نهاية الحرب الباردة ومرحلة الأحادية الأميركية، شهدنا التخبط في بلورة نظام متعدد الأقطاب وذلك في موازاة أزمة نقدية عالمية و صعود صيني وعودة روسية في العام 2008 حيث تزامنت الهزة في وول ستريت و الألعاب الأولمبية في بكين والحرب في جورجيا.
ومنذ ذلك الحين كانت هناك عناوين الحرب ضد الإرهاب والتحولات العربية منذ 2011 ومرحلة صعود الهويات عالميا. لكن حسب “استراتيجية الدفاع الأميركية” التي نشرها البنتاغون في يناير 2018 تبدلت المقاربة وجرى التأكيد على الانتقال من أولوية محاربة الإرهاب إلى أولوية التنافس الدولي بين الدول الكبرى.. ووصفت الوثيقة الواقع الحالي بالواقع الذي يفرض على واشنطن الالتفات إلى التعاظم الصيني الروسي الذي بات يُهدد بشكل كبير المصالح الأميركية.
ولفت اعتبار هذه الاستراتيجية للصين بمثابة مصدر تهديد صلب متصاعد في المجالات العسكرية والاقتصادية. وحسب نظرة واشنطن يختلف الواقع الجيوسياسي والجيوعسكري الروسي المجاور لدول حلف الناتو عن الجغرافيا السياسية والعسكرية الصينية وهذا يفسر تفضيل بكين لمبدأ القوة الناعمة بالرغم من قفزة في تنشيط تمددها في بحر الصين الجنوبي والجزر المتنازع عليها مع الجوار، لكن من دون “استفزاز كبير للمصالح الأميركية”.
بيد أن الحرب التجارية الترامبية وخلفيات الصراع والحوار حول المسألة الكورية والتوسع الاقتصادي الصيني حول العالم. أخذت تزيد من إشارات القلق الأميركية وَمِمَّا لا شك فيه أن بعضها مبالغ به ويهدف إلى ضمان استمرارية التفوق الأميركي. وهذا الصيف وصل الأمر بالبنتاغون إلى التحذير من قيام الصين بتدريبات أثناء المناورات على ضرب الولايات المتحدة.
وورد في تقرير للبنتاغون عن القوات المسلحة الصينية أن جيش تحرير الشعب الصيني زاد من مساحة منطقة العمليات فوق المياه وحصل على خبرة في المناطق البحرية الهامة و”من المرجح أن الصين تجري مناورات عسكرية لشن هجمات على أهداف لأميركا وحلفائها”. وكذلك تشعر الولايات المتحدة بالقلق إزاء تطوير برنامج الفضاء العسكري الصيني. وهذا يتناقض حسب واشنطن مع الموقف العلني لبكين ضد عسكرة الفضاء.
يربو هذا القلق وهذا الاهتمام الأميركي بخصوص “حرب الفضاء” إلى أوجه في عام 2014؛ فبمجرد إطلاق الروس قمرا صناعيا غامضا دفع الخبراء إلى التشكيك بأنه تجربة لسلاح مستقبلي في الفضاء بهدف السيطرة على الأقمار الصناعية الأخرى أو تدميرها.
وترافق ذلك مع تقييم أميركي صدر في العام 2016 أي ما قبل حقبة ترامب وورد فيه أنه سيكون لتخفيض موارد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها تأثير سلبي على الدور المهيمن للولايات المتحدة في العالم. وجاء حرفيا في تقرير “البيئة التشغيلية المشتركة 2035” (JOE 2035) الذي نشره مركز أبحاث البنتاغون أنه “في أقل من 20 عاما، يمكن لروسيا والصين الوصول إلى مستوى الولايات المتحدة وحلفائها في المجالين الاقتصادي والعسكري بل وربما تجاوزهما”.
ضمن هذا الصراع الاستراتيجي المتعدد الأوجه، لم تعد الهيمنة على البحار وفِي البر كافية لديمومة الغلبة الأميركية مما دفع بالرئيس دونالد ترامب في مايو الماضي إلى التصريح بأنه “يجب أن نسيطر على الفضاء” موضحا أن “الوجود البسيط” لم يكن كافيا.
وتوضحت الخطط الأميركية في شهر أغسطس الحالي مع إعلان نائب الرئيس مايك بنس عن إنشاء فرع جديد سادس من الجيش الأميركي يعرف باسم “قوة الفضاء” وذلك في العام 2020، وإنفاق 8 مليارات دولار على المشروع للسنوات الخمس القادمة، كخطوة أولى.
من جهتها، تستعد الصين لحرب الفضاء وتجهز “قوات عسكرية فضائية” لتزيد من حضورها في المدار الأرضي المنخفض، وعلى الرغم من عدم صدور بيانات رسمية تقول مصادر غربية إن القوات الحربية الفضائية الصينية سوف تشمل صواريخ نووية وقوات معلوماتية ووحدة جيش إلكتروني، إلى جانب استخبارات متخصصة بتحليل الإشارات الإلكترونية، وهذا النوع من الاستعداد يعدّ الصين لخوض حرب كاملة في الفضاء.
وهناك شكوك أميركية في عمل الصين على تطوير سفن فضائية مسلحة بالليزر ومركبات عسكرية فضائية ولذا من المتوقع أن يصبح مدار الأرض مزدحما بالأسلحة كما هو سطح الأرض تماما، ويحذر خبير جيولوجي أوروبي من “أن الخطورة تكمن في أن أي تدمير للمدار الأرضي قد يعيد البشرية في كهف الزمن آلاف السنين إلى الوراء”.
لا يبدل السباق إلى عسكرة الفضاء من احتدام الصراع في الأرض وفِي هذا الصدد تمتلك الصين عدة عناصر جيوسياسية تؤهلها لتكون قوة عظمى؛ مثل عدد السكان، والمنظومة العسكرية والاقتصاد القوي والمساحة والموقع والتطلع الاستراتيجي.
لكنها تواجه تحديات عدة تحتاج التغلب عليها قبل أن تستكمل صعودها المدوي وأبرز المخاطر تتمثل في تدهور البيئة بسبب نسبة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون العالية وفرض القيود على الصناعة، والتفاوت بين الطبقات وبين الأرياف والمدن، والتراجع الديموغرافي في مجتمع عجوز أخذ يهدد جودة القوة العاملة في المستقبل.
هكذا يبقى الصراع مفتوحا، ويختزن الكثير من المتغيرات تبعا لعوامل القوة الداخلية والخارجية ونوعية التحالفات الإقليمية والدولية، ويخفي أيضا المفاجآت والتحديات.
khattarwahid@yahoo.fr