أردوغان يستدرك بعد تحليقه في عالم الشعبوية أن الحلف الشرقي لن ينقذ وضعه الاقتصادي، ويبدو ميالا للعب الورقة الأوروبية مركزا على تبعات أزمة بلاده على اقتصادات أوروبا والعالم.
ترتسم معالم فراق تركي – غربي على ضفاف البوسفور، ويزداد الكلام عن “الحلف الشرقي” مع روسيا والصين وإيران. لكن صعوبة فك الارتباط بين تركيا وأوروبا والأزمة الاقتصادية المتفاقمة تضع حسابات ورهانات النظام الأردوغاني على محك الاقتصاد واللعبة الجيوسياسية الحساسة، ويبدو أن الاستناد إلى الأيديولوجيا والحنين إلى أمجاد الماضي والخطابات عالية اللهجة لا يصمد أمام الوقائع الصعبة في تركيا اليوم.
يتواصل اختبار القوة بين الرئيسين دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان ويرسم ذلك علامات استفهام على مستقبل التحالف الأميركي – التركي الذي كان في صلب الاستراتيجية الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط منذ عهد هاري ترومان منتصف القرن الماضي.
وشكّل يوم “الجمعة الأسود” (10 أغسطس الماضي) منعطفا في تاريخ العلاقات الثنائية بعد الانهيار الكبير للعملة التركية إثر قرار واشنطن برفع الرسوم الجمركية على استيراد الفولاذ والألمنيوم التركي، وذلك بعد عقوبات ضد وزارات الداخلية والعدل والمالية.
بالطبع، لا يمكن المبالغة في آثار العقوبات الأميركية المتصلة باحتجاز القس أندرو برونسون على أوضاع اقتصاد تركي يسجل تراجعا كبيرا منذ بدايات هذا العام، ولا يمكن لتغريدة ترامبية مهما كان وقعها من تغيير أوضاع متينة داخلية أو علاقات خارجية سليمة. هكذا على خلفية الأزمة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وعدم الثقة في السياسة الاقتصادية للرئيس أردوغان، يكشف تراجع الليرة التركية في الفترة الأخيرة عن الضعف الهيكلي للبلاد.
بعيدا عن الخطابات الحماسية للرئيس – السلطان حول “المعجزة الاقتصادية التركية”، تواجه تركيا، الهشة وغير المتوازنة، العديد من التحديات الهيكلية مع معدل التضخم الدراماتيكي الذي وصل إلى 15.9 بالمئة في يوليو الماضي ما يقلل من القوة الشرائية، وارتفاع معدل البطالة الحقيقي إلى 17 بالمئة، بعيدا عن الإحصاءات الرسمية (11 بالمئة)، وزيادة مديونية الشركات التي اقترضت بكثافة بالدولار بعد فشل الانقلاب في يوليو 2016 ووصل تراكم الديون بالعملات الأجنبية إلى أكثر من 200 مليار دولار، وذلك في موازاة تسجيل أسوأ سعر صرف للعملة الوطنية في تاريخ البلاد، وأدى كل ذلك إلى زيادة حالات الإفلاس في العام الماضي وخاصة في قطاع البناء والمقاولات، وتسجيل عجز خطير في ميزان المدفوعات.
ومن الواضح أن تعزيز قبضة أردوغان على الاقتصاد منذ إعادة انتخابه في يونيو الماضي لم يطمئن الأسواق والمستهلكين، خاصة أن ممارسة ضغوطه على المصرف المركزي لعدم رفع أسعار الفائدة ارتبطت بالخشية من تباطؤ النمو (7.4 بالمئة في 2017)، إذ أن ارتفاع معدل النمو الاقتصادي كان دوما موضع مباهاة حزب العدالة والتنمية ونقطة قوية في الاقتصاد خلال فترة صعوده في العقد الماضي. وبدل الاستماع إلى أرباب العمل أو المعنيين بالدورة الاقتصادية قام أردوغان بتعيين صهره على رأس وزارة المالية، مما جعله رئيس وزراء غير رسمي.
وبدل أن يلجأ إلى تغيير في السياسة النقدية، شدد أردوغان على لعب ورقة “المؤامرة الأميركية”، مستغربا “الطعن في الظهر والخيانة من شريك استراتيجي في الناتو”. لكن استثارة الشعور القومي لم تدفع بالمتداول التركي لطلب الليرة التركية واضطر إلى ضخ الكثير من السيولة من أجل عودة انتعاش محدودة لسعر صرف العملة الوطنية.
أما الرئيس الذي زاد سلطوية منذ محاولة الانقلاب الفاشل وتحويل النظام إلى حكم رئاسي، فلم يتردد في إبداء رغبته في معاقبة مستخدمي الإنترنت الذين يجرؤون عبر شبكات التواصل الاجتماعي على التنديد بسياسة الحكومة والذين وصفهم بـ”الإرهابيين الاقتصاديين”.
وكل هذا التصعيد يثير قلق المستثمرين الأجانب، علما أن تركيا بحاجة إلى ١٠٠ مليار دولار من أجل تعويم وضعها الاقتصادي. ولذا لا يكفي الوعد القطري باستثمار 15 مليار دولار من تعديل الكفة، ومن هنا يحاول أردوغان من خلال اتصالاته بألمانيا وفرنسا استرضاء الجانب الأوروبي الذي يخشى انعكاسات الأزمة التركية على اقتصاده، لكن خطوة أنقرة بإطلاق جنديين يونانيين لا تكفي لإعادة الزخم إلى علاقات تركية أوروبية اهتزت في السنوات الأخيرة.
يستدرك أردوغان بعد تحليقه في عالم المزايدة الشعبوية أن الحلف الشرقي لن ينقذ وضعه الاقتصادي، ويبدو ميالا للعب الورقة الأوروبية مركزاً على تبعات أزمة بلاده على اقتصادات أوروبا والعالم. وبالفعل سيتعرض النظام المصرفي في منطقة اليورو لفترة من الاضطراب، بالنظر إلى صلات تركية ببعض البنوك الإسبانية والإيطالية والفرنسية والألمانية، ونظرا لصعوبات المصارف التركية في سداد قروضها باليورو.
يمكن للأزمة التركية أن تكشف بشكل خاص نقاط الضعف في الاقتصادات الأخرى في البلدان النامية الكبيرة. إذ خلال أسبوع خسر الراند الجنوب أفريقي والروبل الروسي 8 بالمئة مقابل الدولار.
أما الريال البرازيلي أو البيزو الأرجنتيني فقد خسرا على التوالي 4 و6 بالمئة. وزادت التوترات التجارية مع انخفاض العملات وزيادة تكلفة الواردات والتضخم. وهكذا يظهر شبح أزمة جديدة شبيهة بأزمة تايلند نهاية القرن الماضي أو أزمة اليونان في 2009.
على الصعيد العملي لا يمكن اختصار أساس الأزمة بالعناد التركي في مسألة احتجاز القس الأميركي أندرو برانسون ووضعها في خانة “الكرامة الوطنية” أو موازاتها على سبيل “المقايضة” أو “المعاملة بالمثل” في طلب أنقرة استرداد الشيخ التركي فتح الله غولن اللاجئ السياسي في الولايات المتحدة والخصم اللدود لأردوغان بعدما كان الممهد له لارتقاء سلالم السلطة.
ومما لا شك فيه أن الأزمة الحالية في صلات أنقرة وواشنطن وراءها تراكمات سابقة زاد من حدتها تراجع السياسة الأميركية في الإقليم منذ حقبة باراك أوباما، والتناقض حول المسألتين الكردية والسورية، وكذلك تخبط السياسة الخارجية التركية في الانتماء إلى المعسكر الغربي والانفتاح على روسيا والشرق.
وإذا كانت الأزمة الحالية بقيت في الجانبين السياسي والاقتصادي ولم تصل إلى الجانب العسكري ومصير عضوية أنقرة في الناتو، لكن التلويح بإغلاق قاعدة إنجرليك وتجميد تسليم مقاتلات أف-35 إلى تركيا، يعني أن الأبواب مفتوحة لاحتمال ابتعاد فعلي لتركيا عن حلف شمال الأطلسي والغرب إذا كان ذلك يساهم في تدعيم حكم أردوغان الشخصي وطموحه الإمبراطوري الإسلامي الخفي أو العلني.
لكن ذلك يرتبط بمواقف الدول الأخرى في الناتو وبالحاجة المتبادلة استراتيجيا واقتصاديا. بيد أن مراقبة أوضاع المؤسسة العسكرية التركية منذ يوليو 2016 تتيح التنبه لصعود جناح الضباط الموالي للصلة مع روسيا والصين والهند (الجناح الأوروآسيوي) على حساب الجناح الغربي العلماني التاريخي، وربما يكون لهذا الجناح من الدولة العميقة التركية الرغبة في إحداث انقلاب جيوسياسي والرهان على إمكانية لعب دور شبيه بدور الجمهورية الإسلامية الإيرانية وعلى أمل القيام برقصة جيوسياسية بين الغرب والشرق تجني من خلالها الثمار في حنين إلى الماضي الغابر ووضع إرث أتاتورك جانبا.
تبدو هذه الرهانات التركية محفوفة بالمخاطر، لكن أردوغان الذي امتهن سياسة حافة الهاوية سيصعب عليه التراجع أمام دونالد ترامب، وسيحاول عبر التلويح بالحلف الشرقي الاستمرار في الرقص على الحبل المشدود لفترة من الزمن.