من يكسب حرب الإرادات ولعبة ليّ الأذرع ما بين واشنطن وطهران؟ هل يبدأ التفاوض بين الطرفين وفق المقاربة الأميركية؟ هل تحصل صفقة شاملة ضمن المسعى الأميركي لإعادة تركيب الإقليم المستمر فصولاً منذ حرب العراق في عام 2003، وهل يحصل تغيير داخل بيت الحكم الإيراني لاحتواء الغضب الداخلي؟ وما هي انعكاسات اختبار القوة الجديد على موازين القوى الإقليمية والدولية؟
تتسارع التساؤلات وسط صيف إيراني ساخن وفِي سياق مخاض الفوضى التدميرية إقليمياً، وترتبط الإجابات بجملة متغيرات داخلية وميزان قوى تتحكم واشنطن بمفاصله وسط مشهد الاضطراب الاستراتيجي عالميا.
يستمر الغليان الشعبي في إيران وطال في الأسبوع الماضي حوزة دينية في غرب البلاد مما يشكل عملاً رمزياً له دلالته ضد النظام القائم منذ سقوط الشاه في عام 1979، وتواجه حكومة الرئيس حسن روحاني الاعتراض من داخل المؤسسات إلى حد إطاحة البرلمان بوزير العمل والشؤون الاجتماعية، وطلب الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد رحيل روحاني.
وهذا التأزم الداخلي مرشح للتفاقم مع بدء تنفيذ الدفعة الأولى من العقوبات الأميركية، وأشار ترامب يوم الثلاثاء الماضي في إحدى تغريداته الشهيرة، إلى أن “أي شخص يتعامل مع إيران لن يتعامل مع الولايات المتحدة”. وفيما يبدو الاتحاد الأوروبي مقيد اليدين وغير قادر على مواجهة تداعيات العقوبات وتنفيذ وعوده، لا يبدو أن روسيا والصين بإمكانهما طمأنة طهران حول البدائل، ويتضح أن إيران هي وحيدة فعلياً في وجه قرارات الإدارة الأميركية على عكس ما يقوله وزير الخارجية محمد جواد ظريف عن أن “أميركا التي تناور وتتحول باستمرار، لا يمكن لأحد أن يثق بها”، وخلافاً لتطمينات المرشد علي خامنئي بأنه “لا يوجد ما يثير القلق حول مستقبل النظام. لا تقلقوا حول أوضاع (الإيرانيين). لا أحد يستطيع فعل شيء، وأبلغوا الجميع ذلك”.
بيد أن الثقة الزائدة بالنفس عند أرباب النظام الإيراني تخالفها الوقائع الداخلية والمواقف الملموسة للأطراف الخارجية.
وفِي الأسابيع الأخيرة تواصلت الاحتجاجات في المدن الكبرى في عدة أنحاء من إيران- بما في ذلك طهران وأصفهان وشيراز ومشهد- وسط تصاعد الغضب على الحالة الاقتصادية والنظام السياسي.
بالطبع لا تزال الطبقة الوسطى هي العنصر الأهم في هذا الحراك لكن دخول البازار على الخط وكذلك سائقي الشاحنات وحصول إضرابات في قطاع النفط والهجمة على حوزة دينية، يدلل على مدى الغليان الشعبي وعن انتفاضة لم تنجح السلطات في إخمادها لأنه في مقابل إمكانية التنازل أمام الخارج وإبداء بعض المرونة في رسائل متعددة وصلت من طهران إلى مراكز القرار العالمي، يبدو أن هناك توجهاً للتشدد في الداخل والامتناع عن تقديم أي تنازل أو القيام بإصلاحات جوهرية.
ويقود ذلك أحد الخبراء في الشأن الإيراني للتحذير من هذا المنحى لأنه “لم يعد بإمكان الإيرانيين تحمل كل البؤس الذي لحق بهم على مدى الأربعين سنة الماضية والمعاناة من عنف كبير قد يلجأ إليه النظام مما سيولد انفجاراً أكبر وأشمل”.
واستنادا إلى تجربة الانتفاضة الخضراء في عام 2009 سيشكل العامل الخارجي عنصرا هاما في مستقبل الحراك الداخلي الإيراني، لكن العنصر الحاسم والتقريري سيكون بيد شعوب إيران وسط عدم قدرة النظام على ضبط موجة الفساد وتهاوي سعر العملة والاختلال الموجود في البنية التحتية والأفق المسدود لشبيبة تحتج على الإنفاق الخارجي بدل تكريس موارد الدولة للتنمية.
ويزداد منسوب التحدي مع بدء تداعيات العقوبات الأميركية، وقال مسؤول إداري كبير بوزارة الخارجية الأميركية إن “نحو 100 شركة دولية أعلنت نيتها مغادرة السوق الإيرانية وذلك استجابة للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأميركية على إيران والمتعاونين معها”، وشمل ذلك الشركات في قطاعي الطاقة والتمويل ولا سيما الشركات التي أعلنت نيتها مغادرة السوق الإيرانية أو وقف توسعها، “بيجو” و”رونو” الفرنسيتين، و”دايملر” الألمانية لصناعة السيارات، و”توتال” الفرنسية للمحروقات، و”سيمنس” الألمانية للتكنولوجيا. وهكذا فإن حزمة العقوبات الأولى التي طالت النظام المصرفي الإيراني ظهرت آثارها بسرعة وستكون الآثار أقسى عندما يبدأ فرض حزمة عقوبات ثانية أوائل نوفمبر المقبل تستهدف قطاع الطاقة.
إزاء كل ذلك ثبت أن الولايات المتحدة تمسك بخيوط اللعبة الدولية، وأنها لا تزال القوة العظمى الوحيدة في بداية القرن الحادي والعشرين، وأن العالم متعدد الأقطاب الذي ظن البعض أنه ظهر بعد التعثر الأميركي في أفغانستان والعراق وعودة روسيا وصعود الاتحاد الأوروبي والصين، والهند والبرازيل، لم يتبلور حتى الآن ولا يزال سراباً. إذ بالرغم من انتقادات الكثير من الدول لإدارة ترامب يظهر أن أميركا ستبقى لفترة طويلة، القوة التي يدور حولها العالم.
تبعاً لهذه المعطيات وبالرغم من الضجيج الإعلامي والتهويلات الإيرانية حول إغلاق المضائق والردود العسكرية، يتبين وفق مصادر متقاطعة أن الاتجاه السائد في طهران هو الذهاب إلى التفاوض من جديد مع واشنطن ومحاولة إنجاز اتفاق جديد مع إدارة الرئيس دونالد ترامب. وفق نفس هذه المصادر فإن ذلك سيمثل صفقة شاملة تتضمن التخلي النهائي عن كل طموح إيراني نووي عسكري، ومراعاة المصالح الإسرائيلية في سوريا تحت الرعاية الروسية، والانسحاب من الصراع في اليمن، والاندماج في التصور الأميركي للمستقبل الإقليمي.
يبدو ذلك نوعا من التسهيل أو الإغراق في التفاؤل في حلحلة ملفات عالقة بين واشنطن وطهران منذ أكثر من أربعة عقود، ويستند إلى نوع من التسليم الإيراني بشروط الرئيس ترامب، ويقودنا ذلك إلى الحذر إزاء سيناريوهات حاسمة ويميل الاعتقاد بعدم بلورة الصورة قبل الخريف القادم. ولقد عودنا تاريخ هذه المنطقة أن يكون دائما نتاج ما هو غير متوقع.