وفي أوائل يوليو الجاري وصل الأمر بوزيرة الدفاع الإيطالية الجديدة، إليزابيتا ترينتا (حكومة تحالف الرابطة وحركة الخمس نجوم) إلى القول “لنكن واضحين.. القيادة في ليبيا لنا” في معرض تحذيرها لنظيرتها الفرنسية، فلورنس بارلي.
ورغم محاولة السفارة الليبية في إيطاليا تصحيح كلام الوزيرة عن ليبيا “كأولوية لإيطاليا وليست ملكية لها”، يتضح أن الكثير من الأطراف الخارجية تتدخل بوقاحة ومن دون حدود، ويلقي التجاذب الإيطالي – الفرنسي بثقله على الملف الليبي ضمن مسلسل تدخلات ومنازعات الفوضى التدميرية.
تسارعت الأحداث في الفترة الأخيرة مع تجدد الصراع على الهلال النفطي وتوزيع عائدات تصدير البترول وأعقب ذلك جدل بخصوص مطالبة رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج بدخول البوارج الإيطالية في المياه الإقليمية الليبية أو التمركز الإيطالي في مصراتة أو الجنوب الليبي تحت غطاء مكافحة الهجرة غير الشرعية أو دعم القوى المحلية في الحرب ضد الإرهاب.
وفي هذا الإطار أكد العميد أحمد المسماري المتحدث باسم القيادة العامة للجيش (المشير خليفة حفتر) على أن “القوات المسلحة لا يمكن أن تفاوض على سيادة ليبيا”، ولمّح إلى أن التدخلات الإيطالية تنم عن “استهتار بأمن ليبيا”، والهدف منها “إحداث مشكلة والتشويش على المبادرة الفرنسية التي رحب بها أعضاء مجلس النواب والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة”.
يبرز هكذا كيف يكمنُ كل طرف للآخر لمنعه من تحقيق أي إنجاز، ويدفع الثمن المبعوث الأممي غسان سلامة الذي يبدو أن مهمته تعاني من عدم وحدة المجموعة الدولية ومن الصراعات الإقليمية، وبالطبع من نزعات بعض الأطراف المحلية والدولية لإفشال اتفاق باريس بأي ثمن.
والجدير بالذكر أن هذا الاتفاق الذي تمخض عن مؤتمر دولي دعا إليه الرئيس إيمانويل ماكرون في يونيو الماضي لا يعدُّ وثيقة ملزمة بسبب الاستنكاف عن التوقيع عليه بسبب عمق الخلافات بين الفرقاء الليبيين. ومع ذلك حركت المبادرة الفرنسية المياه الراكدة في الملف الليبي، داخليا وخارجيا. خاصة بعد تمكّن ماكرون من جمع الخصوم الأربعة لأول مرة، في غرفة واحدة في قصر الإيليزيه، وهم فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي، خليفة حفتر قائد الجيش الوطني، عقيلة صالح رئيس البرلمان، وخالد المشري رئيس مجلس الدولة. وقضى الاتفاق الذي تدعمه الأمم المتحدة بتوحيد المؤسسات الليبية الرئيسة وأبرزها المصرف المركزي ومؤسسة النفط، ويفضي لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية قبل نهاية هذا العام.
بيد أن هذه الخطوة للخروج من المأزق سرعان ما أثارت المزيد من الاحتقان داخل هذا البلد الذي لا يزال يعتمد على إنتاج النفط والغاز التي تمثل إيراداتهما 93 بالمئة من الإيرادات المالية للبلاد وربما يثير ذلك المزيد من الأطماع الخارجية ويتهم معسكر حفتر إيطاليا وقوى أخرى بدعم الجماعات التي شنت الهجوم على الموانئ النفطية، وللعلم فإن إيطاليا تعتمد على نحو 35 بالمئة من النفط ونحو 20 بالمئة من الغاز من ليبيا.
ولذا لم يكن غريبا أن يصل التجاذب بين فرنسا وإيطاليا إلى حد أن مصادر إيطالية مسؤولة اعتبرت أن “الدور الفرنسي في ليبيا يهدد الأمن القومي الإيطالي نفسه”، وأنه “رغم نفي ماكرون أي توجهات عدوانية، فإن سياسته تهدف إلى تهميش إيطاليا في مجمل المغرب العربي”، وتتهم نفس المصادر إيمانويل ماكرون بالسعي إلى “الاستحواذ على ثروات الطاقة في المستعمرة الإيطالية السابقة مستغلا الفوضى الليبية والفراغ السياسي الانتقالي الحالي في روما”.
هذا الصراع على النفوذ ليس بالجديد، وتعود جذوره إلى مرحلة الوجود الإيطالي في إقليم برقة في الشرق والوجود الفرنسي في إقليم فزان في الجنوب الليبي والتنازع حول شريط أوزو المشترك مع تشاد.
لكن هذا التجاذب أخذ أبعادا أوسع مع اندفاع الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، بالتعاون مع رئيس الوزراء البريطاني حينها ديفيد كاميرون وموافقة أميركية، في الترتيب للتدخل الدولي في ليبيا عام 2011 من دون التنسيق مع إيطاليا التي تطورت علاقاتها مع القذافي في حقبة برلسكوني.
وتفند مصادر فرنسية متابعة للملف الليبي الاتهامات الإيطالية وتعتبر أنه لا يمكن اختصار الأمور على أنه تنافس تجاري بين عملاقي الطاقة في فرنسا وإيطاليا أي “توتال” و”إيني”، وأن السوق الليبية تتسع للجميع، وتضيف أن “مساعي باريس تملك دوماً غطاء مجلس الأمن الدولي” وأن “لا أطماع لفرنسا في ليبيا”. بيد أن من ينظر إلى خارطة المشهد الجيوسياسي يلاحظ أن باريس المتمسكة بمنطقة نفوذها في الساحل وشمال وغرب أفريقيا تعتبر ليبيا بمثابة حلقة وصل استراتيجية فائقة الأهمية.
لكن هذه الصورة تبقى ناقصة من دون التدقيق في الأدوار الدولية الأخرى وخاصة من قبل بريطانيا، والولايات المتحدة التي تتم الكثير من الأمور تحت عينها الساهرة.
من الناحية التاريخية كانت واشنطن أقرب إلى روما وتميل إلى وجهة نظرها حيال ليبيا. وإذا كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيجد نفسه في حيرة بين “صديقه” منذ 2017 إيمانويل ماكرون وصديقه الجديد الإيطالي جوزيبي كونتي، لكن الاهتمام الأميركي يتركز على متابعة محاربة الإرهاب وترك مسلسل الفوضى على مداه من دون دعم الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر وإبقاء نوع من الفيتو غير المفهوم حياله.
حيال هذا الاحتدام والبلبلة في الصراع حول ليبيا لا يسّهل التجاذب الفرنسي الإيطالي دروب الحلول الواقعية وإعادة بناء الدولة الليبية. والأدهى من ذلك أنه بدل من أن يكون النفط الليبي نعمة للبلاد فإذ به يتحول إلى نقمة ومصدر تعقيد جديد في النزاعات الليبية.
khattarwahid@yahoo.fr