لن نلوم أحداً من الفلسطينيين إذا شعر أن المشروع الوطني الفلسطيني في أسوأ حالاته. فهذا ما يتجلى في ألف تفصيل وتفصيل في الواقع. وليس الغرض من هذه المداخلة تحليل ما حدث لاستخلاص الدروس، ولا حتى التفكير “خارج الصندوق“ والبحث عن مخرج.
ويجدر القول إن المُحرّض على هذه المُداخلة كان دعوة من صديق لتشكيل “خلية تفكير“ من “مثقفين“ لعلها تُسهم في الخروج من المأزق. وليس من قبيل المجازفة القول إن دعوات مماثلة، وتعيين صناديق ينبغي الخروج منها وعليها، من أكثر أنواع الرياضة الوطنية شعبية في أوساط مختلفة هذه الأيام، في الوطن والشتات على حد سواء. وغالباً ما يحتل “المثقفون“، تلك الشريحة الغامضة، وذات الطاقات السحرية تقريباً، متن الكلام في هذا الموضوع.
لا بأس. هذه ردود فعل طبيعية، وينبغي أن تكون متوقّعة، ففي غيابها ما يُنذر بموت الفعالية، وجفاف ملكة التفكير في الشأن العام. وفي مجرد وجودها ما ينم عن حقيقة أن المأزق ماثل للعيان، وأن مقاومته ماثلة للعيان، أيضاً. ولكن الفكرة الرئيسة في هذه المداخلة أننا، كشعب، لسنا في وضع يبرر الكلام عن هزيمة كاملة، ولا عن خروج محتمل من التاريخ. إسرائيل في أفضل حالاتها. هذا صحيح. العالم العربي يغرق، وأكثر حكّامه يستعطف الإسرائيليين والأميركيين، بالسحب من رصيدنا، على أمل النجاة، والبقاء في سدّة الحكم. وهذا صحيح، أيضاً.
ولكن: نصف الشعب، تقريباً، يوجد الآن في بلاده. وهذه الحالة غير مسبوقة منذ العام 1948. وفي الشعب، الذي يزيد تعداده الآن عن 12 مليوناً، ثمة حيوية مُدهشة تتجلى في ألف تفصيل وتفصيل. وهذا هو المصدر الرئيس للتفاؤل. ولا يوجد لدينا، ولا لدى الإسرائيليين، تصوّر واضح عن معنى هذا كله. كان خيار الإسرائيليين، على مدار سبعة عقود مضت، أكبر قدر ممكن من الأرض، وأقل عدد ممكن من الفلسطينيين. جرّبوا حلولاً كثيرة، لكنهم لم يعثروا على صيغة مثالية حتى الآن، فلا وجود لصيغ مثالية في وضع كهذا.
ولعل نقضة الضعف الرئيسة في “خلايا التفكير“، والتفكير “خارج الصندوق“، أنها تفكّر في عالم جديد بمفردات عالم مضى. ومجازي المُفضّل ما ذكره الفرنسي ريجيس دوبريه عن كيفية دخول التاريخ فصلاً جديداً مُقنّعاً بقناع فصل سبق، إلى حد يتصوّر معه المشاهدون أنهم عرفوا هذا الشيء من قبل، وأن شيئاً لم يتغيّر في الواقع. وينبغي أن يُرى هذا الخلل معطوفاً على شيء أكبر منه بكثير.
فالتاريخ، في أذهان الكثيرين، لا يتجلى إلا بوصفه نوعاً من التحقيب، الذي يبدأ بلحظة تكوين أولى: الصهيونية بدأت مع “الدولة اليهودية“ بعدما خاب أمل هرتسل في الاندماج. والشيوعية بدأت “بالبيان الشيوعي“، ونهوض الحركة الوطنية الفلسطينية بدأ مع دعوة غسّان كنفاني لدق جدران الخزّان، وقبله مع جريدة “فلسطيننا“ في أواخر الخمسينيات. ويمكن الاستطراد بأمثلة لا حصر لها من تواريخ دول وحركات دولانية في أربعة أركان الأرض.
والواقع أن لهذا الاستيهام بالغ النفوذ، وعميق الأثر، على العاملين في الحقل الثقافي، والمنخرطين في الشأن العام. فالكل يبحث صادقاً ومُخلصاً عن مخرج، لعل فكرة من نوع ما، وفي لحظة إشراق، تفك العقدة، وتفتح الباب. ومع ذلك، تجدر ملاحظة أن كل العلامات السابقة وإن كانت صحيحة، إلا أنها جزئية تماماً، ولم تحتل ما لها من مكانة إلا بأثر رجعي، وكلما اكتسبت هالة أكبر اختزلت الواقع أكثر. فالحياة أكثر تعقيداً من تبسيط تحوّلات من عيار تاريخي في لحظة أولى، أو مصدر فريد.
وعلى ضوء هذا كله، لا يبدو من قبيل المجازفة القول إن شخصاً أو أكثر سيعثر، بالتأكيد، بعد وقت قد يطول أو يقصر، على فكرة تختزل لحظة تتخلّق الآن بوصفها أولى. وبقدر ما أرى الأمر، لا أعرف ما هي. كل الكلام عن تجديد الحركة الوطنية، ونقد الفصائل، والرهان على العالم العربي، وعلى الروح الكفاحية للشعب، ينتمي إلى عالم مضى، ويصف قناع الفصل الجديد بمفردات فصل سبق.
لذا، وإذا كان ثمة ما يبرر الخروج من صناديق وعليها، ينبغي التمييز بين صناديق تصلح للتدريب على الملاكمة من نوع نقد الفصائل، والسلطة، وكارثة حماس، وهي لا تفتح أفقاً جديداً في الواقع، ولا تجد حتى من يدافع بكفاءة عنها إلى حد يسمح بتحويلها إلى تحديات فكرية، وبين عالم يتشكّل ولم تتضح صورته النهائية بعد، وربما لن تتضح في وقت قريب. وهذا لا ينسحب على العالم العربي وحسب، بل وعلى كل مكان آخر، أيضاً.
بمعنى أكثر مباشرة: اللحظة الراهنة رمادية تماماً. في الذهن ما يُقال عن “صفقة القرن“ بوصفها نزاعاً على عقارات، وعن تحالف في الباطن بين دول عربية (أغلبها) وإسرائيل، لن يبقى طويلاً في الباطن، على الأرجح، وعن دولة حماس في غزة، ودولة بحدود مؤقتة في الضفة الغربية، أو ضم الضفة إلى إسرائيل. كل هذه الأوراق على الطاولة في عواصم مختلفة، فعلاً، وبعضها قد يستدعي عمليات جراحية مؤلمة، وربما قدراً غير مسبوق من الوحشية والرشوة.
ولكن، هذه الأوراق، إذا خرجت من الأدراج، تخلق وقائع جديدة يصعب التنبؤ بما تُطلق من ديناميات، كما كان الشأن مع وقائع سبقتها. أما الثابت الوحيد فيتجلى في حقيقة أن نصف الشعب يعيش في بلاده، وأن نصفه الثاني يحن إليها، وفي الأمرين ما لا يبرر الكلام عن خراب مالطا. وفي هذا وعليه فليتسابق المتسابقون.
khaderhas1@hotmail.com