تناولنا، حتى الآن، مفاصل أساسية، وإن يكن بشكل مقتضب، في ما أسميناه لحظة الأميركيين، والباكستانيين، والسعوديين، الأفغانية في العام 1979. ولكن المشهد يظل ناقصاً ما لم نتوقف، قليلاً، أمام لحظة مصر الأفغانية. صحيح أن الانخراط المصري المباشر في الحدث الأفغاني كان أقل من الآخرين، ولكن تداعياته الثقافية والسياسية بعيدة المدى كانت أهم من كل هؤلاء. وإذا جاز القول إن القلاع تخترق من الداخل، فإن الثغرة التي فُتحت في السور المصري هي التي اندفع منها السيل الجارف لمشروع الأسلمة، الذي يحصد العرب، والعالم، ثماره اليوم.
كانت لحظة مصر الأفغانية في العام 1979 تتويجاً لديناميات محلية وإقليمية ودولية بدأت مع وفاة عبد الناصر في العام 1970. ففي ذلك العام اعتلى سدة الحكم في القاهرة رجل غيّر واقع مصر والعالم العربي. ثمة الكثير من الآراء المتناقضة حول دور الفرد في التاريخ، ولا ينبغي في كل الأحوال إسقاط المرافعات الماركسية بشأن القوانين العامّة الحاكمة للتحوّلات الكبرى. ومع ذلك، يظل دور الفرد حاسماً إذا تصادف حضوره، على مسرح التاريخ، مع ديناميات في الإقليم والعالم قد تختلف أو تأتلف مع خصوصية حراك ومصالح الطبقات الاجتماعية، وطبيعة النظام السياسي، في هذا البلد أو ذاك.
وفي سياق كهذا يتموضع الدور الحاسم للرئيس أنور السادات، الذي أطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن، ومنح الدولة المصرية صفة دولة العالم والإيمان. وإذا كان الراحل محمد حسنين هيكل قد اجتهد في تناول دوافع السادات الشخصية والنفسية في “خريف الغضب”. فإن ما يعنينا، هنا، يتمثل في تأمل ملامح الفجوة التي فُتحت في السور المصري منذ مطلع السبعينيات.
فلن يتمكن أحد من التأريخ لتلك الفترة دون التوقف أمام تجليات مختلفة لترجمة معنى “الرئيس المؤمن” و”دولة العلم والإيمان” في ممارسات خطابية، وخيارات سياسية واقتصادية، وتحيّزات ثقافية وأيديولوجية، تشكّل مجتمعة مشروعاً للأسلمة، لم يكن يُراد له، بالضرورة، أن ينتهي بالسلفيات الجهادية، ولكن بصيرة الروائية البريطانية ماري شيلي، في العام 1818، كانت أشد نفاذاً من البصر الكليل لحكّام وتجّار، ودعاة، ومناضلين مُحترفين، في مصر والعالم العربي، في سبعينيات القرن الماضي.
المهم، أطلق السادات، في سياق مشروع الأسلمة، سراح الإخوان المسلمين من السجون، واستعان بهم للحد من سطوة، وصد، المد اليساري في الجامعات، وتبيّن لاحقاً أن بعض أجهزة الأمن كانت لا تكتفي بتحريض شباب الإخوان على مجابهة الطلاّب اليساريين وحسب، بل وزوّدتهم، في حالات بعينها، بأدوات هجومية حادة، أيضاً. شهدتُ، بالمعنى الشخصي، جانباً من تلك الصدامات، ورأيتُ ما تخللها من عنف. وكانت تلك لحظة مفصلية في تاريخ العنف باسم أيديولوجيا دينية متطرّفة شاء القدر أن يكون السادات نفسه من أبرز ضحاياها.
والمهم، أيضاً، أن مشروع الأسلمة لم يكن مرشحاً للحياة، وقابلاً للترجمة، في معزل عن خيارات اقتصادية في الداخل، وتحالفات سياسية وأيديولوجية في الخارج، شكّلت مجتمعة انقلاباً على ميراث مصر الناصرية. تجلى الانقلاب في سياسة الانفتاح الاقتصادي، والعلاقة الحميمة بالسعودية، والانقلاب على الحليف السوفياتي، وبذل كل ما يمكن لكسب ود الأميركيين، ومحاولة وضع حد للصراع المصري والعربي ـ الإسرائيلي انتهت بمعاهدة سلام منفرد مع إسرائيل.
لذا، وهذه فرضيتي الرئيسة: لم يكن مشروع الأسلمة مرشحاً للحياة، وقابلاً للترجمة، في معزل عن التحوّلات الطبقية الجديدة التي أطلقها الانفتاح، ولم تكن هذه ممكنة دون علاقة من نوع خاص بالسعوديين والأميركيين، ولم يكن لعلاقة كهذه أن تكون ممكنة دون الانقلاب على الحليف السوفياتي، ولم يكن السلام مع إسرائيل ممكناً دون رافعة أيديولوجية، ومظلة اقتصادية، وغطاء سياسي، وفّرته خيارات السياسة الداخلية والخارجية في آن. كانت الأسلمة جزءاً عضوياً في بنية تلك التحوّلات. ولكن تجارب الهندسة السياسية والاجتماعية، والعمليات الجراحية الثقافية، لا تتم في الواقع وكأنها تجرى في معمل معقّم الهواء، لذا يستحيل التحكّم بمخرجاتها النهائية.
ولكن ما لنا للمُخرجات النهائية الآن، هذا ما سنعالجه لاحقاً، ويكفي القول إن لحظة مصر الأفغانية تبلورت على خلفية، وفي سياق، كل تلك الخيارات، وما أطلقت على الأرض، وتفاعل فيها، ونحم عنها، من ديناميات هائلة لا يملك أحد كبح جماحها، أو ضبط إيقاعها.
قبل اللحظة الأفغانية، بسنوات قليلة، أصبحت مصر، إلى جانب السعودية وفرنسا، عضواً مؤسساً وفاعلاً في “نادي السفاري” لمكافحة المد الشيوعي في أفريقيا. في رصيد هذا الحلف أكثر من انقلاب وحرب أهلية، في القارّة الأفريقية، التي كانت القاهرة قبل إنشاء النادي المذكور، بعقد من الزمن، مأوى المدافعين عن حريتها، ومنارة شعوبها الساعية إلى التحرر من الكولونيالية الغربية.
ومع بدء اللحظة الأفغانية صدّرت، بالتنسيق مع السعوديين والباكستانيين والأميركيين، إلى الميليشيات الأفغانية المعادية للسوفيات ما توفّر لديها على مدار عقود سبقت من أسلحة سوفياتية الصنع، ولم يكن الأميركيون، في السنوات الأولى للحرب في أفغانستان، في وارد تزويد الأفغان بأسلحة أميركية أو غربية يمكن أن يُستدل منها على بلد المنشأ. بالمناسبة، نقل الأميركيون بعد تحرير الكويت جزءاً من دبابات صدّام العراقية، سوفياتية الصنع، إلى باكستان، وهذه بدورها سلمتها للأفغان.
وفي السياق نشأت أكثر من شركة تجارية متعددة الجنسيات للقيام بمهمة نقل السلاح والمعدّات إلى باكستان، وحصدت أرباحاً بملايين الدولارات. كانت اللحظة الأفغانية، متعددة الأضلاع، لحظة نشوء طبقة وشبكات تجّار السلاح، أيضاً، وتحوّلهم إلى فاعل رئيس في العالم العربي. في أسبوع قادم نتقصى بعض ملامح الثغرة الثقافية.
khaderhas1@hotmail.com