الكتابة، كلّ كتابة، ومنذ قديم الزّمان
هي من عمل هذا الحيوان النّاطق، بل هي مزية، من بين مزايا أخرى، تفرق الإنسان عن سائر المخلوقات. إنّها فعل هو نتاج تجريدي من مهمّات العقل، أمبدعًا كان العقلُ أم ناقلاً لما أبدع آخرون.قبل وجود الكتاب درج الإنسان على التّدوين بالنّقش في الحجر أو النّقش في الألواح الطّينيّة، عبورًا بالكتابة على العظم والجلود وما إلى ذلك من وسائل تحمل نتاج العقل والنّقل لتبقى على مرّ الزّمن، لتكون ذاكرة وزادًا للأجيال القادمة. هذه هي بالذّات وظيفة الكتاب منذ القدم وهذه وظيفته في يومنا هذا وستظلّ كذلك في المستقبل المنظور على ما يبدو، رغم الطّفرة الإلكترونيّة المعاصرة.
ولمّا كان الكتاب وما يحويه من مضامين هو من عمل الإنسان العاقل والنّاقل فإنّه يحتمل الخطأ والصّواب، ولهذا أيضًا فإنّه يحتمل النّقد والنّقض. لا فرق في هذه القضيّة إن كان الكتاب حاملاً لمضامين العلوم الطّبيعيّة أو حاملاً لمضامين العقائد الدّينيّة على اختلاف مشاربها ولأيّ من الدّيانات والعقائد البشريّة كان انتماؤها.
إنّ العقائد البشريّة تعكس كلّ تلك المنظومات المعرفيّة الّتي يتوصّل إليها العقل البشري في مراحل تدرّجه على مرّ تاريخه. وفي الحقيقة فإنّ العقائد الدّينيّة لدى بني البشر تعكس في الأساس منظومات المجاهل وليس منظومات المعارف. إنّ بني البشر على العموم يحيلون الجهل بقوانين الطّبيعة والجهل بالظّواهر الطّبيعيّة إلى قوى أخرى خارقة تقع ما وراء حدود علمهم في مراحل تطوّرهم عبر التّاريخ. هكذا ينتقل الإنسان من العادي المادّي ومحاولة معرفة علاقاته السّببيّة إلى مرحلة الإيمان. أي إنّ الجهل، على العموم، هو العنصر الجوهري الّذي يتأسّس عليه الإيمان على مرّ الزّمان.
هكذا وُلدت الآلهة عبر التّاريخ
فلقد خلقها الإنسان لكي ينيط بها كلّ ما لم يقدر عقله على سبره وعلى فهم علائقه. وهكذا على مرّ التاريخ جاءت آلهة البشر على شاكلتهم، تحبّ وتبغض وتتزاوج وتتحارب ثمّ تتصالح إلخ، وبمدى عمق وثراء معارفهم تكون معارف آلهتهم على شاكلتهم. لقد لخّص الفيلسوف الإغريقي “اكسينوفان” هذه المسألة بالقول: لو كانت الحيوانات، أهليّة كانت أم وحشيّة، تعرف فنّ الرسم، لكانت رسمت آلهتها على شاكلتها، ولكان الحصان، على سبيل المثال، قد رسم إلٰهه على شكل حصان.
وهكذا أيضًا، عندما تذكر التّوراة، في قصّة الخلق، أنّ حوّاء قد خُلقت من ضلع آدم، فلا يمكن النّظر إلى هذه الخرافة إلاّ من باب الأسطورة الّتي تحاول الذّهاب بعيدًا والنّظر في المجهول من أجل وضع تفسير مبسّط لبدء الحياة البشريّة على هذه الأرض. ولمّا كان العقل البشري منذ القدم قاصرًا عن فهم هذه الظّاهرة الّتي تدبّ على الأرض فإنّ الإحالة إلى الأسطورة تصبح الطريق المثلى لفكّ مجاهل هذه القضايا الشّائكة. وهكذا تتحوّل الخرافة إلى قصّة أسطوريّة تتداخل في فعل الإيمان، لأنّ القداسة على العموم هي أداة تُستخدَم لحفظ الذّاكرة الحضاريّة من خلال العودة مرّة تلو أخرى إلى تكرار وترديد الأسطورة. وبوصفها كذلك فهي لا تحتضر ولا تفنى مهما تناقضت مع المُكتشفات العلميّة لأنّ وظيفتها لا تنتهي باندفاع العلوم قدمًا، لأنّها من طبيعة مختلفة أصلاً.
ومن هذا المنطلق ستحمل الذّاكرة الحضاريّة التّوحيديّة، يهوديّة عبورًا إلى الإسلاميّة، كلامَ الله لموسى عبر عوسجة أو عليقة محترقة في الصّحراء. ومهما بدا الأمر مضحكًا في نظر الإنسان الّذي يعيش في هذا العصر غير أنّ هذه الخرافة تبقى حيّة وعالقة فاعلة في ذهنه لأنّها ترتبط بقضايا الإيمان والّتي لا مجال لوزنها بميزان العقل.
كذا هي الحال في ما يتعلّق بظواهر الطّبيعة
الّتي لم يسبر أغوارها العقل البشري في مراحل تطوّره البدائيّة. فكلّ ما يجهله بهذه الشؤون والقضايا ينسبه إلى الآلهة أو إلى عالم الغيب، عالم الخرافة. فلو نظرنا إلى ظاهرة غروب الشمس على سبيل المثال، فماذا نحن واجدون في الموروث العربي الإسلامي؟ من بين الأمور الّتي قد تثير الضّحك في عصرنا العلميّ هذا هو تلك الخرافات الّتي كان أسلافنا يؤمنون بها، وقد يكون من الصّعب على المؤمنين بالنّصوص المقدّسة التّخلّي عنها.
مثال على ذلك ما ورد في القرآن بخصوص مغرب الشّمس. فقد ذكر القرآن في سورة الكهف وفي سياق ذي القرنين: “حتّى إذا بلغَ مغربَ الشّمس وَجدَها تغربُ في عينٍ حمئة” (سورة الكهف: 86).
فلو ذهبنا إلى أحد أقدم التّفاسير القرآنيّة الّتي وصلتنا فماذا نجد في تفسير غروبها في ”عين حمئة؟ ها هو الصّحابي أبو ذر الغفاري يتطرّق إلى هذه المسألة: “قال أبو ذر الغفاري: غربت الشمس يومًا، فسألتُ النبيّ (صلعم)، أين تغرب الشمس؟ فقال النبي (صلعم): تغرب فى عين حمئة وطينة سوداء، ثم تخرّ ساجدةً تحت العرش فتستأذن، فيأذن لها…” (تفسير مقاتل بن سليمان، أنظر كذلك بخصوص ذات الرّواية باختلافات طفيفة في تفسير الطّبري، سنن أبي داود، تفسير القرطبي، تفسير البيضاوي، زاد المسير لابن الجوزي، الدّرّ المنثور للسّيوطي، وغيرها من المصادر).
فما هي، يا تُرى، هذه العين الحمئة؟
أوّلاً، لا يوجد إجماع على النّصّ القرآني بهذه الصّورة، وهذا ما يُخبرنا به الطّبري: “فاختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة {في عين حمئة}، بمعنى: أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قرّاء المدينة، وعامة قرّاء الكوفة {في عين حامية}، يعني أنها تغرب في عين ماء حارة.” (نقلاً عن: تفسير الطّبري للآية). فهذه الرّوايات والقراءات المختلفة هي خير شاهد على أنّ هذه النّصوص، ورغم قداستها، ليست ثابتة وإنّما هي من عمل البشر، من عمل ذاكرتهم الّتي لا يمكن أن تكون ذاكرة محكمة لا يعمل فيها تقادم العهود وتقادم الزّمان وتبدُّل المكان، وربّما الأهواء أيضًا، عمله.
الأمر الوحيد الّذي يُجمع عليه المؤمنون في هذا السّياق هو أنّ الشّمس تغيب. ولكن، كيف وأين تغيب هذه الشّمس فهذه القضايا مثار خلافات، إن لم نَقُل، مثار خرافات. فالبعض يقول إنّها تغيب في طينة سوداء والبعض يقول إنّها تغيب في عين ماء حارّة، وكما يذكر الطّبري: “واختلف أهل التّأويل في تأويلهم ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته”. ولهذا الغرض يستعينون بالأحاديث النّبويّة: “عن عبد الله، قال: نظر رسول الله (صلعم) إلى الشمس حين غابت، فقال: في نار اللّه الحامية، في نار الله الحامية، لولا ما يَزَعُها من أمر الله لأَحْرَقت ما على الأرض” (تفسير الطبري).
إنّ الطّبري لا يشكّك في المضمون المضحك للخرافة، بل يحاول التّوفيق بين القراءتين لا غير، فيقول: “والصوابُ من القول في ذلك عندي أن يُقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولكل واحدة منهما وجهٌ صحيحٌ ومعنًى مفهومٌ، وكلا وجهيه غيرُ مُفسدٍٍ أحدُهما صاحبَه. وذلك أنّه جائزٌ أن تكون الشمس تغرب في عين حارة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ {في عين حامية} بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة. ويكون القارئ {في عين حمئة} واصفَها بصفتها التي هي بها، وهي أنها ذات حمأة وطين” (تفسير الطبري).
ثمّ تسلك الخرافة طريقًا جديدة، إذ تذهب إلى أناس تلك النّواحي لتسرد علينا أحوال معيشتهم. فها هي الخرافة تتعاظم: “وروى قتادة عن الحسن قال: وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القُدور، ووجد عندها قومًا لباسُهم جُلودُ السّباع، وليس لهم طعام إلاّ ما أحْرَقت الشّمسُ من الدّواب إذا غربت نحوها، وما لفظت العَيْنُ من الحيتان إذا وقعت فيها الشمس.” (زاد المسير لابن الجوزي، وتفسير البيضاوي).
غير أنّ هنالك أيضًا من بين السلف
من قام بمحاولات جدّيّة لدحض هذا الغباء الصّحْراوي البدائيّ. فها هو الرّازي ينظر في هذه المسألة في مؤلّفه “مفاتيح الغيب”. لقد تطرّق الرّازي في البداية إلى اختلاف القراءات وحاول، مثلما فعل الطبري من قبله، التّقريب بينها: “واعلم أنّه لا تَنافيَ بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعًا” (الرّازي، مفاتيح الغيب). لقد وفّق الرّازي بين الخلافات هذه، لأنّه رأى أنّ المشكلة لا تكمن في القراءة فحسب، بل هي في مضمون هذه المشاهدة أصلاً، وهي المشاهدة الّتي تسم اللّه بالغباء في نهاية المطاف.
ولذلك يستمرّ الرّازي في بحث المسألة، فيقول: “ثبت بالدّليل أنّ الأرض كرةٌ وأنّ السّماء محيطةٌ بها، ولا شكّ أنّ الشمس في الفلك…”. ولأنّ الأرض كرويّة، يضيف الرّازي مستعينًا بتفسير الجبائي: “إنّ راكب البحر يرى الشمس كأنّها تغيب في البحر إذا لم ير الشطّ وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التّأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره… أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالنّاظر إلى الشّمس يتخيّل كأنّها تغيب في تلك البحار”.
غير أنّ الرّازي يشعر بأنّه قد وصل مبلغًا كبيرًا في نقد ونقض الرّوايات التّراثيّة حول نصّ مقدّس فيجنح إلى تخفيف الصّدمة المنوطة بذلك، ربّما، فيضيف: “ولا شك أن البحار الغربيّة قوية السّخونة فهي حامية وهي أيضًا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله: {تغرب فى عين حمئة} إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض، قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة”.
ثمّ ما يلبث الرّازي أن يعود إلى دحض كلّ تلك الخرافات من خلال تتبّع المشاهدات الفلكيّة في الأصقاع المختلفة من الأرض، فيقول: “وذلك لأنّا إذا رصدنا كسوفًا قمريًا، فإذا اعتبرناه، رأينا أنّ المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أوّل الليل ورأينا المشرقيين قالوا: حصل في أوّل النّهار، فعلمنا أنّ أوّل اللّيل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس”.
ولأنّ الرّازي يأخذ بالعقل لا بالنّقل،
ولأنّه يأخذ بالمشاهدات العلميّة لا بالخرافات النّابعة من جهل ومن أمّيّة، فهو يصل إلى القول الّذي لا بدّ منه: “وإذا كانت هذه الأحوالُ معلومةً بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أنّ الشّمس طالعةٌ ظاهرةٌ في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلامًا على خلاف اليقين، وكلامُ اللّه تعالى مُبرّأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يُصار إلى التأويل الذي ذكرناه”.
فهل نذهب نحن أيضًا، مثلما فعل من قبلنا، صاحب مفاتيح الغيب إلى العمل بالعقل بدل النقل؟
من استخدم العقل في الغيبيات فقد اضاع الغيبيات. ومن استخدم استخدم الغيبيات في عالم المشاهدة فقد اضاع المشاهدة . عالم الغيب عالم صدقنا وصار عصبيتنا لوجود منافسة. عالم الشهادة تخيلنا وتحققنا شككنا و اكتشفنا وتعلمنا وعلمنا. للمناسبة ابن رشد كان يقول ان الارض ثابتة والشمس تدور.والكل كان يحكي عن حافة العدم. ومن القديم كانت نظريتان حول الارص ،واحدة تقول كروية والثانية تقول منبسطة وكانت ادلة الثانية اقرب الى فهم عقل ذلك الزمان حسب معرفته بالقوانين. لكن المشكلة اليوم انه لا يزال هناك جمعيات بعقول مسطحة تقول بتسطحها . وتحمي هذه الجمعيات انظمة مسرورة بولائها لها. فمن تواجه اولا الانظمة ام… Read more »