ما بات يعرف اليوم بمجموعة فاغنر المرتزقة الروسية المنتشرة على الخريطة العالمي، كانت بدايتها في مقاطعة “الدونباس” الأوكرانية، حين اندلعت الحرب الأوكرانية –الروسية عام 2014. وكانت مجموعة من “القوات الخاصة” تتألف من مئتين وخمسين عنصرًا من عناصر النخبة الروسية التابعين لقيادة الاركان، لكن أثناء المعارك والتقاتل هناك، وعلى أنقاضها، تأسست وحدة “فاغنر” الروسية للقتال إلى جانب الجيش النظامي في أوكرانيا والعالم.
القصة الكاملة لمجموعة فاغنر
في قصر الكرملين، وفي التقليد السنوي للاحتفال بـ”يوم البطل القومي” بتاريخ 9 تشرين الأول /أكتوبر من العام 2016، برزت صورة ضمت جنرالات أربعة خلف بوتين. وكان فيها “ديمتري أوتكين”، ونائبه، وضابطان آخران لمناسبة استقبالهم من قبل الرئيس بوتين. وقد حضر الاحتفال وقتها أكثر من ثلاثمائة شخصية عسكرية مقاتلة من وحدات الجيش الروسي، فكانت الصورة ملفتة للجميع ما أعطى رسالة واضحة بأن هذا “الرُباعي العسكري“ هو قوة قتالية سرّية بإشراف الرئيس والقائد العام للجيش الروسي. حيث تلقوا جميعًا من يد الرئيس النجوم الذهبية، المسمّاة “وسام المجد” الذي يُعتبر أعلى وسام في روسيا ويقدم فقط لأبطال الاتحاد السوفياتي سابقًا، والاتحاد الروسي حاليًا.
إذاً، عُرف وقتها اسم قائد قوات فاغنر التي قاتلت في الدونباس في جمهورية “نوفي روسيا” (“روسيا الجديدة“) وقتها، وحاليًا في سوريا وليبيا وبيلاروسيا ودول أفريقيا والتي تقود اليوم أشرس حربًا في جنوب أوكرانيا (“باخموت سوليدا”).
إنه العميد “دميتري أوتكين” (Dmitri Outkine) الذي يُعرف بالشايب (السديخ)، والذي خدم في القوات الخاصة، في لواء الاحتياط للقوات الخاصة الروسية، في “الوحدة رقم 700″، حتى العام 2013، وأصبح عميدًا في الاحتياط بعد التقاعد. (قلّده فلاديمير بوتين “وسام الشجاعة” في العام 2016 لدوره في”معركة حلب”).
في العام 2014 أصبحت “الوحدة 700″ تحت إمرة العميد المتقاعد وقد أطلق عليها اسم “فاغنر” (أي “المنظمة غير الحكومية” )، حيث باتت تتولى تنفيذ الأوامر من قائدها الأساسي.
لتصبح الوحدة بعدها تعرف باسم “فاغنر”، وقد ذِاع صيتها في كل العالم، ابتداءً من حرب “الدونباس” في “جمهورية دونيتسك” و”جمهورية لوغانسك” طوال عام، كانت فيه القوات الخاصة الروسية في هذه المناطق الحامية والمشتعلة، وحتى العام 2015. ليصبح “بريغوجين” الراعي المالي لها دون الإعلان رسميًا عن هذه الرعاية، إلى اندلاع الحرب الأخيرة حينما تبنى “بريغوجين” الرعاية العلنية للمنظمة من خلال التجنيد والإشراف على قادتها وشراء السلاح وفتح مقرات رسمية لها في المدن الروسية، وخصوصاً المقر الرئيسي في “سانت بطرسبرغ”. علاوة على ظهوره بفيديوهات بلباس عسكري يعلن فيها سقوط مناطق، ويهدد الجنود الاوكران بالقتل ويطالب الرئيس الأوكراني بإخراج قواته من مناطق القتال إلى أن وصلت تصرفات “بريغوجين” إلى التطاول على جنرالات المؤسسة العسكرية وإهانتهم، ما فتح الاشتباك على مصراعيه بينهما.
اما النائب لوحدة فاغنر العسكرية فهو العقيد المظلي والمحارب القديم في أفغانستان، بطل الاتحاد السوفياتي الذي سيكون بطل الاقتحامات التدميرية في القوة الخاصة الروسية في سوريا أندريه تروشيف والذي يعرف باسم “فونتانكا“.
في العام 2014-2016 تبلورت علاقاتهم من خلال الرحلات المشتركة بينهما، وتوطدت علاقتهما الوطيدة برجل بوتين، الذي يعرف باسم “طباخ الكرملين”، الميلياردير “يفغيني بريغوجين”، حيث تشير المعلومات أنهم توافقوا على صناعة مجموعات قتالية مختلفة تحت رعاية “بريغوجين” المالية.
ففي الصورة “الظاهرة لهم في الاحتفال“، والتي تجمع الأبطال الروس مع الرئيس الروسي، تغيب تضحياتهم وأعمالهم العلنية عن الصحافة اليومية التي لا تعرف عن تاريخهم وأعمالهم أي شيء يذكر سوى أنهم مجرد ضباط في الجيش، ما يؤكد بان هؤلاء “الأبطال” هم القادة العسكريون الميدانيون غير المعروفين للجيش والأمن والإعلام والذين سيكون لهم الدور القتالي القادم.
أما رجال هذه الوحدة فيعتبرون من الوحدات العسكرية السرّية والتي لا يكشف عن أعضائها، انما فقط بعد انتهاء الخدمة العسكرية، وهذا توجيه سرّي أبقت روسيا على اعتماده منذ الاتحاد السوفياتي.
تُعتبر “القوة الخاصة” التابعة لقيادة الأركان الروسية قوة خاصة مؤلفة من ضباط للقوات الخاصة كانت تتبع توجهات وأوامر جهاز المخابرات السوفياتي السابق، ” كي جي بي“، وتتبع اليوم لوزارة الأمن الروسية مباشرة. وبحكم العلاقة القديمة مع جهاز المخابرات، كان لهذه القوة وضباطها علاقة مباشرة مع رئيس الجمهورية الروسية الحالي فلاديمير بوتين الذي كان يدير الجهاز الأمني قبل توليه الرئاسة الروسية.
إن مهمة رجل المخابرات لا تنتهي حتى لو تغيّر مكانه، ولذلك يمكن القول أنّ ضباط هذه القوة يتلقون أوامرهم مباشرة من الرئيس الحالي نتيجة العلاقة القديمة الجديدة مع كوادر هذه المجموعة.
أما الرجل الثالث فهو الرائد ألكسندر كوزنتسوف قائد قطاع الاستطلاع في القوة الخاصّة حتى العام 2013 حتى تسريحه من الجيش دون معرفة الأسباب! وفي العام 2014، تولّى مهام القيادة في مجموعة فاغنر. (في أكتوبر 2019، كشفت صحيفة “لو بوان” الفرنسية عن تعرض أحد قادة مرتزقة شركة “فاغنر” الروسية ويدعى “ألكساندر كوزنتسوف” لإصابة “خطرة” أثناء مشاركته في الاشتباكات جنوب العاصمة طرابلس مع عناصر “حفتر“. وقالت الصحيفة إن “كوزنتسوف” المعروف باسم “راتيبور” أرسل إلى مستشفى بمدينة “سان بطرسبورغ” الروسية بسبب إصابته الخطرة، مشيرة إلى أنه كان سجينا سابقا ومتهما بقضايا جنائية.)
والشخص الرابع هو العقيد اندري بوتخاوف، الذي أصيب في سورية في العام 2016 قرب تدمر وقد فقد يده اليسرى، ومن وقتها لا يعرف إلا القليل وعن خدمته العسكرية.
سوريا وفاغنر
بعد دخول القوات الروسية في 29 أيلول/سبتمبر من العام 2015 إلى سوريا في محاولة لإعادة تموضعها على الخريطة الدولية، حيث اختلفت التوجهات والتحالفات الداخلية، وبات على روسيا الاستعانة بقوات غير نظامية لتنفيذ الأعمال القذرة نيابةً عن “الجيش” الذي يحافظ على سمعته امام شعبه وفي الخارج. عندها، تم سحب “فاغنر” من شرق أوكرانيا كليًا، بعدما توقفت الماكينة العسكرية والإعلامية الترويجية عن العمل مؤقتًا في المنطقة، لتنتقل هذه الحملة الروسية بماكنتها العسكرية والدعائية الإعلامية إلى سوريا لتخوض الحرب العلنية ضد المعارضة السورية والقوى الإسلامية، ريثما تفلح في فرض توجهات روسيا القادمة في المنطقة.
“
من هنا نرى بأن الجيش الروس يعتمد على تنمية المجموعة الجديدة بطريقتين:
– الأولى، من خلال تقديم حوافز مالية للجنود والضباط المنتهية مدة خدمتهم للانتساب مجددًا والقتال في صفوفها في المناطق الساخنة حيث تُنفذ اعمال بشعة مثل القتل والاعتقال والسرقة.
– الثانية، حثٍّ بعض الأفراد والضباط في الجيش على تقديم استقالاتهم من الخدمة الرسمية والتطويع لصالح “فاغنر”.
لذا تقوم الاستراتيجية الروسية للقتال في مناطق النزاع على العنصر المرتزق، لعدم تحميل المسؤولية المباشرة للجيش الروسي، وعدم إثارة الرأي العام الخارجي والداخلي عند تحمل الخسائر البشرية.
لذلك كانت العقود محددة لجهة الرواتب الرسمية التي يتقاضاها الأفراد، والتي تصل الى سبعة الاف دولار للضباط وثلاثة الآف للجنود وما فوق، ومبلغ خمسين ألف دولار بحال توفى الشخص بشرط عدم المطالبة بالجثّة من ذويه. وهذه المبالغ مهمة جدا للشباب الذين لا يجدون فرص عمل.
بعد سوريا، باتت المجموعة تتوسع وتعمل على تجنيد الأفراد من دول مختلفة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وافريقيا تحت شعار حماية المصالح والمنشآت الروسية في كافة أنحاء العالم. وسوف تكون بصماتها واضحة في السودان وليبيا ودول افريقية أخرى. لكن القتال في شرق أوكرانيا و”باخموت” وضع المنظمة في عين العاصفة الدولية.
“يفيغني بريغوجين” وشركة “فاغنر”
إنّ تعقّب شركات الأعمال التجارية الأمنية في روسيا أمر صعب جدا!َ وإجمالا، من غير الممكن التعرف عليها بوضوح! على سبيل المثال، مقرّات مجموعة فاغنر في موسكو وأنشطتها الخارجية.
إنّ الكيان الوحيد الملموس الذي يمكن ربطه بـ”فاغنر” هو شركة “آل آل سي كونكورد للخدمات الإدارية والاستشارية” (LLC Concord for Management and Consulting services)، وهي شركة مسجّلة تندرج تحت مظلة “بريغوجين”، وتُوفِّر باقة من الخدمات المتنوعة. ويُزعم أن المدير التنفيذي لكونكورد هو “ديميتري أوتكين” الضابط السابق في القوّات الخاصّة للمديرية العامة التابعة للأركان العامّة في الجيش الروسي (Spetsnaz GRU) والذي يمتلك خبرة واسعة في المعارك وعلاقات وثيقة بالقطاع الأمني الخاص، أي من خلال “مجموعة مورن العسكرية” و”الحرس السلافي”.
ومن هنا تأتي حبكة ارتباط “أوتكين”، وإلى هذه الحبكة تستند الادعاءات بشأن “فاغنر”.
لقد تأسس مفهوم مجموعة فاغنر بعد عدّة تقارير أشارت إلى أشخاص يرتبطون معا، وتم إرسالهم للمشاركة في بؤر صراع مختلفة كجزء من منظمة تحمل هذا الاسم.
هذه التقارير تربط أنشطة ما يُسمى بمجموعة فاغنر كافة بشخص واحد، إنه” يفيغني بريغوجين”. و”بريغوجين” هذا هو رجال أعمال روسي، يُعرف في الغالب في مجال التزويد بالخدمات والاستثمارات، وله علاقات تجمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويقال إن هذه الصلة الوثيقة بالرئيس الروسي قد ضمنت له عقودًا حكومية عدّة، بما فيها خدمات تزويد للجيش الروسي من بين جهات أخرى. كما أنه يرتبط بـ”وكالة أبحاث الإنترنت”، التي اتُّهمت بإجراء عمليات تأثير سياسي في الخارج كما حصل في الانتخابات الامريكية خلال فترة انتخاب المرشّح ترامب.