من أرشيف “الشفاف” في
وداعاً “حَكَم”، إبن “حماه” الشهيدة! والحرية لسوريا!
بيار عقل
*
سورية: دولة أمرك سيدي!!
لا يمر على سورية يوم إلا ويسمع السوريون بخط أحمر جديد عليهم ألاّ يتجاوزوه، حتى ليخيّل للسوري من كثرة الخطوط الحمر التي عليه أن يتفاداها، أن الصين حصرت توزيع كل انتاجها من الأقلام الحمر بالسوق السورية. فأول شيء يفعله كل سوري حين يفتح عينيه في الصباح هو السؤال عن الخط الأحمر الجديد الذي تمت إضافته إلى الممنوعات السورية الكثيرة. وتخطئ كتب الجغرافيا في المدارس كثيراً حين تهمل إضافة الخطوط الحمراء إلى المنتجات التي تشتهر بها الجمهورية العربية السورية. فالزيادة الوحيدة في الانتاج السوري توجد في قطاعات الخطوط الحمر. ولو أضافت وزارة السياحة السورية إلى شعاراتها الترويجية لتنشيط السياحة كلمة الخطوط الحمراء لتصبح أهلاً بكم في سورية أرض الحضارات والخطوط الحمراء لتمكنت من مضاعفة عدد السياح في سورية، لأن أي سائح يبحث عادة عن العجائب والغرائب التي لايراها في بلده. وإذا كان السوريون الحاليون قد اكتشفوا الرقم المسمارية وتماثيل أورنينا وزنوبيا وغيرها من اللقى التي أبدعتها حضارات أوغاريت وايبلا وماري وتدمر على أرضهم، فلن تعثر الأجيال القادمة من السوريين إلاّ على الخطوط الحمراء من آثار هذه المرحلة من تاريخ سورية.
فعلى مدار العقود الأربعة الماضية صدرت قوائم بخطوط حمراء لو أعاد السوريون النظر فيها اليوم لما عثروا على نكتة في العالم أكثر إثارة للضحك منها، ولاكتشفوا أنهم مجموعة من المغفلين لأنهم خافوا منها، وبذلوا جهدهم في ألاّ يتجاوزوها. ففي يوم من الأيام كان مجرد لفظ كلمة العراق (وهو بلد عربي شقيق لمن يجهل ذلك) في سورية العروبية يدخل لافظها السجن. ولا تزال لدى بعض السوريين جوازات سفر مهرت بخاتم في الصفحة المخصصة للبلدان التي يحق لحامل الجواز دخولها يقول “جميع دول العالم ماعدا العراق”. وفي مرحلة أخرى كان مرور اسم الأردن أمام أي سوري يثير نفس ردة الفعل التي يثيرها ذكر الشيطان الرجيم في حضور مؤمن، وذكر اسم الأستاذ رياض الترك علناً يشبه من يرتدي قميصاً عليه الصليب النازي المعقوف في شارع اسرائيلي. وفي ثمانينات القرن الماضي، كان السوري -من تلقاء نفسه- يتحاشى أن تمر كلمة “الإخوان” في حديثه، ويحرص على استبدالها بالأشقاء أو الرفاق أو الشباب، خوفاً من أن يجتهد إبن حلال ويربطها بتنظيم الاخوان المسلمين، ويستبدل كلمة “البيانو” بالأورغ خشية من إبن أصل يربط كلمة البيانو بالأستاذ البيانوني زعيم الاخوان المسلمين، بعد أن أصبح مجرد ذكر اسم الاخوان المسلمين أو ما يمت إليهم بصلة في سورية يعني أن ذاكره قرر الانتحار!
وإذا كانت هذه الخطوط الحمراء تبدو مثيرة للسخرية اليوم رغم أن آلاف السوريين نُكِّلَ بهم وماتوا وسجنوا وعذبوا لمجرد الاشتباه بأنهم تجاوزوها، فإن ما يثير السخرية أكثر هو اختلاط الخطوط الحمراء وتبدلها بشكل يتجاوز أي منطق في الكون. فالسوري الذي عاش وتربى على اعتبار إسرائيل عدوه اللدود، ولم يترك نعتاً من نعوت العدوان في كل القواميس إلاّ واستخدمه ضدها (باعتبار اللغة هي الساحة الوحيدة المتاحة أمامه لمواجهة اسرائيل)، فوجئ هذا السوري بالأستاذ فاروق الشرع وزير الخارجية السابق ونائب الرئيس الحالي وهو يصافح يهود باراك على شاشة التلفزيون بدعوى التفاوض، رغم أن القوانين السورية التي تحكم على من يلتقي بأي اسرائيلي بالخيانة لا تزال سارية، ورغم أنه لا يزال ممنوعاً على أي عربي أو غربي وجد على جواز سفره ختم اسرائيلي دخول سورية!
ثم هل على السوري أن يضرب في المندل ليعرف ما إذا كان تعامله مع أي مسؤول في سورية سيعرضه في يوم من الأيام للسين والجيم. ففي زمن مضى، كانت العلاقة بالسيد رفعت الأسد نائب رئيس الجمهورية السابق امتيازاً لصاحبها، يفاخر بها أمام أهله، وجيرانه يحسبون له ألف حساب بسببها. وفجأة تحولت إلى تهمة يحاول نفيها عنه بأية وسيلة. وكان التقرب من المرحوم محمود الزعبي رئيس مجلس الوزراء الأسبق طموحاً يؤمن صاحبه مستقبله ومستقبل أولاده من خلاله، وفجأة أيضاً صار الشاطر من السوريين هو من بزاود على غيره في التبرؤ من المرحوم الزعبي. وحدث الأمر نفسه مع الأستاذ عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق (مع اختلاف عن الحالتين السابقتين في أنه هو الذي استقال بينما الآخران أقيلا). فقد كان كل الذين ظهروا على شاشة التلفزيون في مجلس الشعب السوري ليردحوا له بعد انشقاقه، ينتظرون أياماً للحصول على موعد لمقابلته. ولا يزال السوريون يحفظون في ذاكرتهم الفترة التي كان فيها الاقتراب من اللواء آصف شوكت مدير المخابرات العسكرية الحالي خطاً أحمر يمنع الاقتراب منه!
حدث ذلك كله ولم يخرج أحد في سورية ليقول للسوريين لماذا تحوّل (السيد والرفيق الذي تملأ وظائفه وألقابه خمسة أسطر في ورقة فولسكاب وتنتهي بكلمة المحترم) خطاً أحمر، ولماذا يشعر كل مواطن في سورية بأنه مثل تلميذ مدرسة ابتدائية في حالة امتحان دائم وهو يرى استاذه ممسكاً طوال الوقت بالقلم الأحمر؟ ولماذا على السوري أن يعيش في دولة تريد تحويل كل من فيها إلى كراسين وحجّاب لا يعرفون من اللغة إلاّ كلمتي “أمرك سيدي”!