تنتظر القوى السياسية اللبنانية ولادة توافق إقليمي ودولي لحلّ المأزق السياسي والاقتصادي في البلاد.
وجّه الكثير من اللبنانيين أنظارهم إلى الاجتماع الخماسي الذي استضافته باريس الأسبوع الفائت، متسائلين عن الخطوات التي سيفضي إليها. وضمّ هذا الاجتماع ممثّلين عن الولايات المتحدة وفرنسا وقطر ومصر والسعودية بهدف الاتفاق على خريطة طريق من شأنها أن تساعد الأفرقاء اللبنانيين على الخروج من أزماتهم السياسية والاقتصادية اللامتناهية.
مع ذلك، ساد التشاؤم حين لم يصدر عن المشاركين أي بيان. لكن لم يكن هذا الموقف مبرَّرًا بالضرورة، إذ يبدو أن سلسلةً من المفاوضات تدور خلف الكواليس حول من سيخلف ميشال عون في رئاسة الجمهورية، ما أدّى إلى فتح نقاشٍ أوسع حول هوية رئيس الوزراء المقبل، وإمكانية حصول لبنان على حزمة الدعم المالي للتخفيف من هول المآسي الاقتصادية التي يعانيها.
بعبارة أخرى، يتّجه لبنان نحو حلٍّ محتمل لمأزقه السياسي من خلال صفقة متكاملة إقليمية ومحلية، على غرار اتفاق الدوحة الذي أُبرم في أيار/مايو 2008 وحال دون وقوع حرب أهلية في لبنان، ثم أفضى إلى انتخاب ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية. يبدو أن العمل جارٍ للتوصّل إلى اتفاق جديد. وفي حين أن بنوده لا تزال غير واضحة المعالم، ونجاحه غير مؤكّد، يتمحور النقاش بأكمله حول حلٍّ سياسي مرتبط بالنزاعات في المنطقة، مع إضافة بعدٍ اقتصادي إليه.
إذًا، أتاح اجتماع باريس مناسبةً للمشاركين الخمسة كي يضعوا قائمة بأمنياتهم حيال لبنان. وأحد الأسباب المحتملة خلف عدم إصدار بيان هو أن فرنسا فضّلت ترك المجال مفتوحًا أمام مزيدٍ من المشاورات مع دول أخرى، ولا سيما إيران. يُشار إلى أن القطريين هم في موقع ممتاز يخوّلهم أداء دور الوساطة بين طهران والسعودية، ناهيك عن تمتّعهم بعلاقات ودّية جدًّا مع الأميركيين والفرنسيين. وللقطريين أيضًا اتصالات وثيقة بالساحة اللبنانية المحلية، وتجمعهم منذ فترة طويلة روابط بحزب الله.
تنطوي الصفقة المتكاملة الأوسع نطاقًا على عناصر كثيرة تتعدّى مواصفات من سيتولّى رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة. ستكون أولوية السعوديين رؤية ما ستقدّمه إيران من تنازلات في النزاع اليمني مقابل تقديم السعودية المساعدة إلى لبنان الذي يُنظَر إليه بأنه تحت تأثير طهران. وعلى الرغم من عدم تجديد الهدنة في اليمن في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، استأنفت السعودية وحركة أنصار الله المعروفة بالحوثيين، محادثاتهما عبر القنوات الخلفية من أجل إطالة أمد الهدنة والتفاوض على حلٍّ أوسع. ومما لا شك فيه أن ذلك سيؤدّي إلى تحسين الأجواء في المفاوضات المتعلقة بلبنان.
يبدو أيضًا أن حزب الله يسعى إلى حلٍّ أكثر توافقية للخروج من المأزق اللبناني، نظرًا إلى أنه لا يملك أكثرية في المجلس النيابي، وبالتالي فهو مضطرّ إلى المساومة مع خصومه، وحتى مع بعض حلفائه، من أجل التوصل إلى اتفاق حول رئيس الجمهورية. المرشّح المفضّل لدى حزب الله هو سليمان فرنجية، بيد أن حظوظه متعثّرة حاليًا بسبب المعارضة التي يلقاها من الحزبَين المسيحيَّين الأساسيَّين، أي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، ما يحرمه الشرعية الطائفية.
يدرك حزب الله أن عليه التحلّي بالمرونة. ففي مقال نُشِر بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، شرح رئيس تحرير صحيفة “الأخبار”، ابراهيم الأمين، الذي غالبًا ما يستخدمه الحزب بمثابة ناطق باسمه، أن الوقت قد حان للتفكير في حلٍّ وسط، نظرًا إلى عجز أيٍّ فريقٍ من الأفرقاء اللبنانيين المنقسمين عن فرض مرشّحه الخاص. ويمكن أن تستند هذه التسوية إلى مقايضة مفادها: “رئيس للجمهورية منا، ورئيس للحكومة منكم“. وأوضح الأمين هذه الفكرة مشيرًا إلى أن المعسكر الموالي لحزب الله بإمكانه المجيء بسليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية وأن حلفاء السعودية باستطاعتهم اختيار نواف سلام، سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة، رئيسًا للحكومة.
وعلى نحو غير مفاجئ، لم يعلّق السعوديون على هذا الطرح، لكنهم بالتأكيد فهموا مفاعيله، إذ أن حزب الله وجّه رسالة ضمنية مفادها أنه يسعى إلى إرساء ترتيب ما مع الرياض، في حين أنه كان يحاول في السابق إغلاق الباب أمام السعوديين في لبنان. وعبّر ذلك عن رغبة حزب الله في تجنّب التداعيات الناجمة عن المأزق اللبناني المفتوح على كل الاحتمالات، والذي لم ينجح في حلّه من خلال أدوات الترهيب والتعطيل التي يستخدمها عادةً.
في غضون ذلك، تشير تقارير غير مؤكّدة إلى أن السعوديين يدقّقون عن كثب في الشخصية التي ستتولّى رئاسة الحكومة، وسط مؤشرات على أنهم يعتبرون رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي مقرّبًا جدًّا من حزب الله. أما الفرنسيون فيُقال إنهم يفضّلون ميقاتي، لاعتقادهم أنه الأكثر قدرةً على دعم مصالحهم في لبنان، ولا سيما من خلال توسيع مشاركة الشركات الفرنسية في القطاعات الاقتصادية المتعثّرة في البلاد. يُشار في هذا الصدد إلى أن شركة Total Energies طرفٌ أساسي في التنقيب عن الغاز في حقل قانا في المياه اللبنانية، فيما فازت مجموعة CMA CGM في تلزيم إدارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت.
تستغرق مسائل على غرار تعيين الأشخاص في المناصب، قسطًا من الوقت لمعالجتها. ومن أجل التوصّل إلى صفقة يتم الاتفاق بشأنها على مستويات التفاوض المتعدّدة، لا بدّ من إرضاء الجميع. من المُستبعَد أن يقبل حزب الله برئيس مقرّب جدًّا من السعوديين والأميركيين والفرنسيين والمصريين، لكنه عالقٌ أيضًا في معضلة: فهو غير قادر على فرض فرنجية على مجلس النواب، لا بل هو أقل قدرة حتى على فرضه على الطائفة المسيحية التي ترفض الآن أكثر من أي وقت مضى، أن تختار الأكثرية المسلمة الممثّلين الأساسيين للمسيحيين في الدولة. وهكذا، بات حزب الله مرغمًا على البحث عن أسماء بديلة قد لا تكون مثالية بالنسبة إليه، إنما سيُضطرّ إلى قبولها ربما من أجل بلوغ اتفاق شامل.
لذا، يبدو من السابق لأوانه الآن التداول بأسماء مرشّحين رئاسيين محدّدين. فاسم المرشّح الذي سيتصدّر السباق الرئاسي سيأتي حصيلة المساومات الإقليمية والمحلية. لن يتم انتخاب فرنجية اليوم، ولا قائد الجيش جوزيف عون. لكن، في حال تم التوصل إلى اتفاق بين كلٍّ من الدول الخمس المشاركة في اجتماع باريس وإيران وحزب الله، ما يدفع سائر الأفرقاء اللبنانيين إلى القبول به، فهذا يعني أن جميع المرشحين لا يزال لديهم فرصة، وأن الخيار سيقع على من سيستوفي بالدرجة الأكبر الشروط النهائية للاتفاق.
يُعدّ وليد جنبلاط عادةً قارئًا متأنّيًا لأوراق الشاي الإقليمية، ما يشرح ربما المساعي التي بذلها مؤخرًا لإطلاق مبادرته الرئاسية الخاصة، وذلك على الأرجح بهدف تعزيز نفوذه المحلّي على وقع الاتصالات المتواصلة إقليميًا للعثور على مرشّح قادرٍ على نيل رضى مختلف الأفرقاء.
يجب التخلّص من وهم أن اللبنانيين سيتوصّلون، من تلقاء أنفسهم، إلى اتفاق على رئيس جديد للجمهورية ورئيسٍ للحكومة. ليس للأفرقاء اللبنانيين أي حافز لتسهيل بلوغ هذه النتيجة، فهم يتوقون إلى معرفة المحفزات المالية التي سيتضمّنها الاتفاق، والتي لا يمكن أن تصدر سوى عن المشاركين الخليجيين. إذا كان القطريون مستعدّين لدفع سلفة على أرباحهم من المشاركة في حقل قانا، كما ألمح بعض المراقبين مؤخرًا، فقد يكون إبرام صفقة سياسية متكاملة مربحًا أيضًا من الناحية الاقتصادية.
ثمة أمرٌ ما قيد التبلور في الشأن اللبناني، حتى لو أن المباحثات ما زالت مستمرة في الوقت الراهن.