كيف تحولت دولة ذات تقاليد طويلة في الاعتدال والانفتاح إلى “قندهار الخليج”؟
تواصل الكويت – الدولة العربية التي تصدرت لسنوات التصنيفات الدولية في حرية الرأي والفكر والإعلام -غرقها في مستنقع المتشددين الإسلاميين وخضوعها لهم.
آخر تجليات التحول الكويتي إلى “قندهار الخليج”، حسب التسمية المحلية تيمّناً بقندهار الأفغانية التي تحكمها غالبية إسلامية متشددة، كان فرض وزارة الداخلية تغييرات على “سباق ماراثون” يقام سنويا، منذ 28 عاما، بطلبها إلى المنظمين منع الاختلاط بين الجنسين في السباق، وإلغاء الفقرات الغنائية والاستعراضات التي ترافقه.
وجاءت تعليمات وزارة الداخلية الكويتية إلى المنظمين بعد طلب من “لجنة الظواهر السلبية” البرلمانية، التي تعكف على فرض منهجها المتشدد وآرائها على الكويت، وعلى تقاليدها الاجتماعية المعتدلة، وعلى فعالياتها.
ولكن كيف تحولت دولة ذات تقاليد طويلة في الاعتدال والانفتاح إلى “قندهار الخليج”؟
الإجابة الأرجح تكمن في السياسة، حيث تعاني أسرة الكويت الحاكمة، آل صباح، من غياب قيادة موحّدة، وهو ما فتح الباب أمام صراع الأجنحة داخل الأسرة، في محاولة كل جناح لاقتناص منصب أمير البلاد، وهو منصب يتولاه عادة ولي العهد تلقائيا عند وفاة الأمير. لكن اختيار ولي العهد يتم بمشاركة “مجلس الأمة”، وهو ما يعطي حركات إسلامية متطرفة، مثل الإخوان المسلمين – العاملة في الكويت تحت اسم “الحركة الدستورية الإسلامية” (حدس) – قدرة على الانخراط في الصراع بين أجنحة أسرة أل صباح الحاكمة والمنقسمة على بعضها البعض.
تاريخيا، الغالبية في الكويت ناصرية، أي من مناصري رئيس مصر الراحل جمال عبدالناصر وتياره القومي العربي العلماني. القومية العربية في الكويت دفعتها للعب دور طليعي في مناصرة الفلسطينيين وقضيتهم، فياسر عرفات كان مقيما في الكويت، وقام مع مقيمين آخرين، وبدعم كويتي مالي سخي، بتشكيل حركة فتح، التي سيطرت فيما بعد على “منظمة التحرير الفلسطينية”.
ظلّ الكويتيون يدعمون عرفات والفلسطينيين حتى اجتاح العراقي صدام حسين الكويت في 1990، فأيد عرفات والفلسطينيون صدام، وهو ما أغضب الكويتيين، فكان أول ما قاموا به بعد استعادة بلادهم طرد الفلسطينيين المقيمين بينهم، وخروج الكويت من محور “جبهة الرفض”، أي الديكتاتوريات العربية التي كانت ترفض السلام مع إسرائيل.
أدرك الكويتيون منذ اجتياح بلادهم أن مصلحتهم تقضي بالتحالف الوثيق مع الولايات المتحدة. لكن الكويتيين تمتعوا بحنكة كافية دفعتهم لتبني سياسة عدم انحياز في المواجهات الإقليمية، على الرغم من صداقتهم الوطيدة مع السعودية وأميركا. كذلك وقفت الكويت بعيدة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وتفادت الشعبوية، والتزمت مواقف الجامعة العربية، ذات البيانات الخشبية، حول حل الدولتين. ولم يكن مستغربا أن يخرج بين الحين والآخر أصوات كويتية تدعو لسلام وتطبيع مع إسرائيل، من دون أن تتعرض هذه الأصوات لأذى.
الحياد الإقليمي الكويتي وتفادي الشعبوية قدما مساحة واسعة للحرية في الكويت، حيث كان ممكنا انتقاد أي كان أو أي شيء ما عدا انتقاد رمز البلاد، أي الأمير، وهذا قانون معقول. حتى رئيس الحكومة، وهو عادة من الأسرة، لم يسلم من استجوابات النواب وانتقادات الإعلام القاسية.
لكن خللاً ما حدث.
بدأ الأمير الراحل المحنك صباح الأحمد يتقدم في السن، واندلعت معركة خلافته، وشمّ الإسلاميون رائحة دم في الماء، فباشروا هجماتهم ضد نظام الحكم بأكمله، وتحالفوا مع قبائل وناشطين مستقلين للإطاحة بالأسرة واستبدالها بجمهورية، في الغالب إسلامية.
لم يتردد الأمير عن المواجهة، فأقام تحالفا مع أعرق الأسر الكويتية، ورمى من اعتدى عليه كلاميا إما في السجن أم في المنفى، وعدّل القانون الانتخابي لمنع قيام محادل انتخابية.
لكن إجراءات الأمير الراحل لم تكن كافية، ما اضطره للاستعانة ببعض الشعبوية لإسكات المتطرفين الإسلاميين. ولأن لا علاقات للكويت مع إسرائيل، ولأن معاداة إسرائيل تبدو مجانية، ولأنه يمكن الاستعاضة عن معاداة الإمبريالية (خصوصا الولايات المتحدة التي تحتفظ بقواعد عسكرية في الكويت) بشتم إسرائيل، أوعز الأمير صباح لحلفائه بانقلاب في الموقف الكويتي من لا مبالٍ تجاه القضية الفلسطينية إلى موقف متطرف، كما بدا واضحا في مواقف الكويت أثناء عضويتها في مجلس الأمن الدولي قبل أعوام.
خلف صباح الأحمد شقيقه نوّاف، العليل، وصار الحكم فعليا في أيدي ولي عهده مشعل، الذي يبدو أنه ارتأى أن يواصل الشعبوية في موضوع إسرائيل وفلسطين، لكنه عمل على عكس سياسات الأمير صباح المتبقية، فأعاد المنفيين، واستبدل حلفاء الحكم بتحالف مع المعارضة، على أمل أن ينجح ذلك في شراء المعارضين. لكن ثمن المعارضين يبدو مرتفعا جدا، ويتضمن الغاء حفلات موسيقية، وفصل الجنسين في الأماكن العامة، وربما إقامة “شرطة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر”، وهي الشرطة التي كانت معروفة بالمطاوعة في السعودية والتي فككها ولي العهد محمد بن سلمان في اندفاعته نحو تحديث السعودية اقتصاديا واجتماعيا.
هكذا، فيما تمضي السعودية في تحديثها، وفيما توصلت الإمارات – التي تتصدر المنطقة في الاقتصاد ورفاهية الحياة – الى اتفاقية سلام مع إسرائيل، وفي وقت استضافت قطر كأس العالم لكرة القدم واستقبلت 15 ألف إسرائيليا، وجدت الكويت نفسها تغرق في قبضة الاسلاميين المتشددين، وهو ما أقلق الإعلام الكويتي، فتصدرت الصحف عناوين تشي بامتعاض الكويتيين من الاتجاه الذي تمضي فيه البلاد.
الاتكاء على الإسلاميين للتغلب على المنافسين ليس فكرة كويتية فحسب. في مصر، استغل جناح العسكري عبدالفتاح السيسي تحالفه مع الإخوان المسلمين ليتولى وزارة الدفاع ويقضي على منافسيه حسين الطنطاوي وسامي عنان. ثم بعد اقصاء خصومه، انقلب السيسي على الإسلاميين واستلم الحكم.
قد ينجح ولي العهد الكويتي مشعل الأحمد في استغلال الإسلاميين للتغلب على الأجنحة المنافسة له، لكنه رهان محفوف بالمخاطر، اذ قد يقوى عود المتشددين الإسلاميين إلى درجة تسمح لهم بالقضاء، لا على أجنحة في أسرة آل صباح فحسب، بل على الحكم بأكمله.
خطأ فادح في هذا المقال: لم يتحالف ابدا السيسي مع الإخوان كي يصل إلى الحكم بل الجيش هو الذي فرضه على مرسي، ثم ان الإخوان هم الذين اطاحوا بطنطاوي وعنان وليس السيسي.
بقدر ما يبدو تحليل حسين عبد الحسين دقيقاً (مع مراعاة أنه يصعب حتى على الكويتيين أنفسهم معرفة مداولات الأسرة الحاكمة) فإنه يبدو لي أن “الأسرة” تظلّ واعية، وتظلّ قادرة في الوقت المناسب على وضع حد لتمادي الأصوليين، وحتى على قمعهم إذا تطلّب الأمر! “الإخوان” يتّجهون نحو الإندثار، بما فيهم “الإخوان الشيعة” (علي خامنئي هو من قام بترجمة “سيد قطب” إلى الفارسية!)، وكل الأمل أن تظلّ الكويت منارة انفتاح وتسامح في الخليج!