سعيد غولكار أستاذ مساعد، من مؤسسة جامعة تشاتانوغا، في قسم العلوم السياسية في جامعة تينيسي في مدينة تشاتانوغا، وزميل بارز غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية وفي معهد توني بلير للتغيير العالمي في المملكة المتحدة. هو مؤلّف كتاب عن قوات البسيج، الميليشيا شبه العسكرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، يحمل عنوان Captive Society: The Basij Militia and Social Control in Iran (مجتمع أسير: ميليشيا البسيج والسيطرة الاجتماعية في إيران) (منشورات مركز وودرو ويلسون وجامعة كولومبيا، 2015). أجرت “ديوان” مقابلة معه أواخر تشرين الثاني/نوفمبر للاطّلاع على رأيه حول الاحتجاجات المستمرة في إيران.
مايكل يونغ: يبدو أن الاحتجاجات المُندلعة راهنًا في إيران ذات طبيعة مختلفة تماما عن تلك التي حصلت مرات عدّة خلال العقد أو العقدَين الماضيَين. ماذا الذي يميّز هذه الاحتجاجات عن غيرها؟ هل نشهد مرحلة ثورية؟
سعيد غولكار: على الرغم من وجود عدد كبير من أوجه الشبه، ثمة اختلافات عدّة بين احتجاجات العام 2022 وجولات الاحتجاج السابقة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في العام 1979، مع العلم بأن موجات من المقاومة الشعبية برزت منذ إقامة الجمهورية الإسلامية في الثمانينيات. لم يشهد العقد الأول احتجاجات كثيرة، إذ تمكّن النظام الشعبوي والإسلامي من تعبئة ملايين الإيرانيين خلال الحرب الإيرانية العراقية.
لكن بعد وفاة آية الله روح الله الخميني وانتهاء الحرب، واجهت الجمهورية الإسلامية تدريجيًا موجات عدّة من الاحتجاجات، بدءًا من الاحتجاجات في مدينة مشهد في العام 1991، وفي قزوين ومدينة إسلام شهر في 1993 و1994، ومرورًا بالاحتجاجات الطلابية خلال العامَين 1999 و2003، ووصولًا إلى الحركة الخضراء في العام 2009. تواصلت الاحتجاجات خلال العقد الماضي، كما في 2017-2018 قبل انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، عندما قتل النظام ما يصل إلى 1,500 شخص خلال يومَين فقط. وفي حين ضمّت الاحتجاجات الطلابية والحركة الخضراء بشكل أساسي أعدادًا كبيرة من الطبقة الوسطى بقيادة إصلاحيين وطالبت بإصلاح النظام، كانت احتجاجات 2017-2018 و2019 في الدرجة الأولى من تنظيم الطبقات الدنيا احتجاجًا على المشقات الاقتصادية والركود، كارتفاع أسعار النفط في العام 2019.
ما يحصل في الوقت الراهن هو حركة جمعت عددًا كبيرًا من الناس من مختلف طبقات المجتمع الإيراني، الدنيا والوسطى والثرية، وانتشرت على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد. وعلى عكس الاحتجاجات السابقة، لا تهدف ثورة العام 2022 إلى تحقيق انفراج اقتصادي أو إصلاح النظام، بل تسعى قبل كل شيء إلى إلغاء الجمهورية الإسلامية كنظام. لقد تغيرت إيديولوجيا الحركة، التي باتت تحمل شعار “امرأة، حياة، حرية”، لتعكس نموذجًا جديدًا من الوعي الشعبي في إيران. ويضطلع مفهوم الحياة بأهمية ملحوظة ضمن هذه الحركة، على عكس العام 1979، عندما كان الاستشهاد في سبيل الله هو الهدف الأسمى. وبخلاف الحركات السابقة، لعبت المرأة، ولا سيما في التعليم الابتدائي والعالي، دورًا مهمًا وبخاصةٍ لدى مقارنتها بالانتفاضات السابقة التي كان يحرّكها ذكور. لذا، تُعتبر احتجاجات العام 2022 نقلة نوعيّة من حيث الاحتجاج الاجتماعي والسياسي: فالإيرانيون اليوم يسعون إلى تفكيك نظام قائم على الشهادة واستبداله بنظام يقدّر معنى الحياة والحرية.
يونغ: كتبتَ عن قوات البسيج، هذه الميليشيا شبه العسكرية التابعة للحرس الثوري. كيف تعامل الحرس، والبسيج على وجه الخصوص، مع الاحتجاجات المستمرة؟ بعبارة أخرى، هل اعتمدا استراتيجية معينة لقمع الحركة الاحتجاجية بنجاح؟
غولكار: تُعتبر الجمهورية الإسلامية إحدى أكثر الديكتاتوريات الحديثة وحشية، التي اعتمدت بشكل كبير على قوات الأمن، ولا سيما الحرس الثوري وميليشياته المدنية أو البسيج. وبينما انتشرت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، نُشرت قوات البسيج على الفور لدعم الشرطة في قمع المحتجين. وحشدت عناصرها في 22 منظمة مختلفة، من بينهم طلاب الجامعات الذين قاموا بتحديد الطلاب المنشقين في الجامعات الإيرانية وقمعهم. وفي الشارع، تلجأ قوات البسيج إلى الاستعانة بمجموعات أمنية وعسكرية، بما فيها وحدات الفاتحين والإمام الحسين والإمام علي وبيت المقدس. وبلغ عدد القتلى خلال الاحتجاجات في صفوف قوات الأمن لغاية الآن، 56 عنصرًا، بينهم 31 من قوات البسيج، ما يشير إلى وجودها القوي في الشارع. وبما أن البسيج يملكون أكثر من 50,000 مكتب في جميع أنحاء البلاد، تمّ اللجوء إلى عناصرها أيضًا لتحديد هوية الأشخاص الذين يرسمون غرافيتي مناهضة للنظام على الجدران أو يطلقون الشعارات من على أسطح منازلهم.
إضافة إلى البسيج، حصلنا على أدلة تفيد بأن الحرس الثوري انتشر أيضًا على الأرض لقمع المحتجين بسبب اتّساع رقعة الاحتجاجات. وفي حين زُودت القوات البرية التابعة للحرس الثوري، في كردستان وسيستان وبلوشستان، بالأسلحة الثقيلة لوقف الاحتجاجات، عمدت وحدات الحرس الثوري في المحافظات إلى نشر موظفيها في الشوارع لمساعدة الشرطة والبسيج في أجزاء أخرى من البلاد. واستخدم النظام المجرمين والبلطجية الإيرانيين للحفاظ على السلطة.
وفي حين خسرت الجمهورية الإسلامية شرعيتها تدريجيًا، واتّضح عجزها وانعدام كفاءتها، أصبحت دولة بوليسية. وفي الوقت الراهن، تتمثّل الاستراتيجية الأساسية للجمهورية الإسلامية في “النصر بالرعب”، في إشارة إلى أحد أحاديث النبي محمد. وباتّباع هذه الاستراتيجية، كثّف النظام استخدام العنف. وشملت وحشية قوات الأمن إطلاق النار المباشر، والضرب المُبرح، والتعذيب، والاغتصاب، واحتجاز الرهائن، وسرقة جثث المتظاهرين القتلى، وترويع الأحياء عن طريق إرسال البلطجية لتدمير ممتلكات الناس. وكانت هذه التدابير ناجحة إلى حد ما، إذ عزف البعض عن النزول إلى الشارع بعد اختبارهم وحشية النظام. مع ذلك، لم تؤدِ إلى وقف الاحتجاجات تمامًا، إذ ما زالت احتجاجات متفرقة تندلع في جميع أنحاء إيران بعد 70 يومًا من مقتل مهسا أميني.
يونغ: تبرز فكرة مهمة مفادها أن أركان الجمهورية الإسلامية، حتى رموز السلطة التي كان يُعتقد أنها محصّنة، لم تعد على ما يبدو تتمتّع بأي شرعيّة في أوساط شريحة كبيرة من الشعب الإيراني. يبدو أن شيئًا ما كُسر، فكيف يمكن لمؤيدي النظام أن يعيدوا جمعه مرة أخرى؟
غولكار: يستمد النظام شرعيته من أربعة مصادر أساسية: التقاليد، والهيبة، وسيادة القانون، والحوكمة الرشيدة. لم يكن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي يومًا قائدًا ذي هيبة، حتى حين تسلّم السلطة لأول مرة في العام 1989. صحيحٌ أن الجمهورية الإسلامية استمدت جزءًا من شرعيتها من الدين والإسلام، لكنها لم تعد قادرة على الاعتماد على الدين بعد الآن. لقد أصبح المجتمع الإيراني علمانيًا على نطاق واسع وفقد الدين الأهمية التي كان يتمتّع بها بين معظم الناس. وباتت الحوزات العلمية تشكّل الهدف الرئيس للمحتجين. ويطالب معظم الإيرانيين بفصل الدين عن الدولة وعودة رجال الدين إلى المساجد.
تُعتبر الجمهورية الإسلامية نظامًا غير كفء إلى حدّ كبير. وإذ تمّ تشكيلها في إطار تفوّق الالتزام الإيديولوجي على الخبرة، لجأت إلى تهميش الخبراء تدريجيًا واستبدالهم بأشخاص سليطي اللسان وموثوقين إيديولوجيًا. تكثّف هذا المنحى في العام 2019 بعد أن أصدر خامنئي بيانه الثاني من أجل بقاء النظام، والأهم أنه سعى إلى التحضير لخلافته. منذ ذلك الحين، تمّت ترقية جيل جديد من المدراء والبيروقراطيين الملتزمين، الذين تم اختيارهم بشكل أساسي من صفوف البسيج. نتيجةً لذلك، لا يمكن أن توفر الجمهورية الإسلامية الحوكمة الرشيدة وتفي بوعدها للشعب الإيراني.
يترافق انعدام الكفاءة في الدولة مع غياب سيادة القانون. وعليه، فهي تمتلك مستوى متدنيًا من العدالة بالمقارنة مع دول أخرى. وفي العام 2021 ، حلّت في المرتبة 119 من أصل 139 دولة من حيث تطبيق سيادة القانون. ودفعت عوامل عدّة، على غرار الفساد المستشري وسوء الإدارة وغياب القيود على الصلاحيات الحكومية، الإيرانيين إلى استنتاج ضرورة الإطاحة بالنظام بالكامل.
يونغ: إن توقيت ما يحصل سيئ بالنسبة إلى النظام. حتى لو بقي آية الله علي خامنئي في منصبه في المستقبل المنظور، فإننا ما زلنا على مشارف مرحلة انتقالية ستلي غيابه عن المشهد الإيراني. كيف يمكن أن تتطوّر الأمور في ذلك السياق؟
غولكار: لا بدّ من أخذ ما قد يحصل عند وفاة خامنئي، وبخاصة في سياق الاحتجاجات المستمرة، في الحسبان. أعتقد أن وفاته، حتى قبل اندلاع احتجاجات العام 2022، تُعدّ بمثابة فرصة أمام الشعب الإيراني لتغيير مسار تاريخ الجمهورية الإسلامية. نحن نعلم أن خامنئي اتّخذ، منذ العام 2019، تدابير عدّة، بما فيها تهميش من يُطلق عليهم اسم الإصلاحيين والبراغماتيين من خلال هندسة الانتخابات البرلمانية والرئاسية بشكل يضمن خلافة سريعة وهادئة بعد وفاته. يبلغ خامنئي من العمر 83 عامًا، واحتمال وفاته في أية لحظة قائم دائمًا. علاوةً على ذلك، هو لا يريد أن يكرّر الخطأ الذي ارتبكه الخميني في العام 1989، حين ترك البلاد غير مستعدة للخلافة عند وفاته. لذا، يحاول خامنئي تحضير خلافته بشكل دقيق.
صحيحٌ أنه لم يعد قائدًا شعبيًا، ولم يكن كذلك منذ البداية، لكنه منذ العام 2009 بدأ يخسر تدريجيًا قواعد دعمه الاجتماعية. فمن يعتبره قائدًا شرعيًا في الوقت الراهن قليلون جدًا. ومعظم الذين يدعمونه يفعلون ذلك بسبب الفوائد المالية التي يحصلون عليها، وليس حبًّا بالقيادة، إضافةً إلى أن غالبية السكان يخشون خامنئي بسبب جهازه الأمني. لذا لا يراه كثيرون فعليًا كخليفة شرعي للخميني. لكن إن نظرنا إلى المسألة في سياق أوسع، سنرى أن عددًا متزايدًا من الإيرانيين يعارضون مفهوم ولاية الفقيه، الذي يمنح المرشد الديني الأعلى أيضًا سلطة الحكم العليا، وفكرة الخلافة المحدّدة مسبقًا، بدلًا من السماح لشخصيات أكثر تمثيلًا وعلمانية بتبوء هذا المنصب.
ماذا سيحدث عند وفاة خامنئي؟ أولًا، سينعقد مجلس الخبراء في أقرب وقت ممكن ويحاول انتخاب مرشد أعلى جديد. لا شكّ أن الحرس الثوري سيمارس ضغوطًا من أجل اختيار مرشحه، ونعلم أنه يفضّل مجتبى خامنئي، نجل علي خامنئي، والرئيس الحالي إبراهيم رئيسي. إضافةً إلى ذلك، سيدفع موت خامنئي الناس إلى النزول إلى الشوارع، ومع انقسام النخبة بين مجتبى ورئيسي وغيرهما، سيكون التردد سيّد الموقف في صفوف قوات الأمن. إن وجود خامنئي في السلطة اليوم يبعث راحة البال في نفوس العناصر الأمنية، فضلًا عن أن أفراد الحرس الثوري أو البسيج يدركون أن خامنئي لن يحاكمهم إن أقدموا على ضرب أو قتل شخص ما بسبب كتابة شعارات على الجدران. لكن خلال مرحلة انتقال السلطة، حين تكون الأمور ضبابية وغير واضحة، لا يمكن أن تتأكد هذه القوات إلى أي حدّ ستدعمها القيادة الجديدة أو ستضبط أنشطتها. ومن شأن حالة انعدام اليقين هذه أن تؤدي إلى تنامي زخم الاحتجاجات. وحتى لو تمّ تفريق الاحتجاجت الراهنة بحلول ذلك الوقت، ستنطلق حركة شعبية ضخمة عندما يتمّ الإعلان عن وفاة خامنئي. غالب الظن أن كثيرين سيحتفلون بوفاته، ولن تحزن عليه سوى أقلية صغيرة من الناس.
بصراحة، عندما أتخيّل تلك اللحظة، ترتسم على وجهي الابتسامة. آمل أن يحدث ذلك في أقرب وقت. ثانيًا، أعتقد أننا سنشهد فجوات في أوساط النخب وصراعات بين الفصائل التي تحاول ضمان مكانتها. ثالثًا، ستؤدي وفاته إلى بروز حالة من عدم القدرة على تنبؤ أفعال قوات الأمن وحثّ الناس إلى النزول إلى الشوارع، ما يولّد زخمًا جديدًا للاحتجاجات. ولا بدّ من أن يؤدي التضامن الدولي مع الشعب الإيراني إلى توسيع الفجوات بين النُخب وانعدام القدرة على تنبؤ أفعال قوات الأمن.
يونغ: هل برز أي دور للقوى الملكية في الحركة الاحتجاجية؟
غولكار: حمل بعض المحتجين علم سلالة بهلوي، وردّدوا شعارات مؤيدة للنظام الملكي مرات عدّة، لكن وتيرتها كانت أقل بالمقارنة مع العام 2019 مثلًا. وفي حين يحظى النظام الملكي بدعم في إيران، لا يمكننا أن نعرف الأرقام الدقيقة للداعمين. أعتقد أن التعاطف مع الشاه لا يهدف سوى إلى السخرية من النظام الديني الذي أطاح به وألقى باللائمة عليه عن أي أوجه قصور في البلاد طيلة 43 عامًا. وترتبط معظم الشعارات الملكية بـ”رضا خان” (1925-1940)، الذي تمكّن من تحويل إيران خلال فترة قصيرة إلى دولة قومية حديثة، مستخدمًا بالطبع القوة الغاشمة. تمثّلت إحدى سياسات الشاه رضا في تهميش رجال الدين، الذين حكموا إيران لاحقًا. ويعكس شعار “شاه رضا، ارقد بسلام” الموافقة على حكمه المزدهر وسياساته التي تُعتبر خيّرة تجاه رجال الدين. ثمّة من قال أيضًا إن الشاه رضا كان يجب أن يأخذ رؤوس رجال الدين بدلًا من عماماتهم.
يونغ: ما النتيجة التي ستفضي إليها هذه الحركة الاحتجاجية؟
غولكار: تعتمد نتيجة هذه الاحتجاجات على متغيّرات عدّة، من بينها الوفاة المفاجئة لخامنئي أو مدى رغبة قوات الأمن في مواصلة قتل الإيرانيين. لكن حتى لو تمكّن النظام من الصمود، فقد طرأت تغييرات كبيرة في إيران، بالنسبة إلى النظام والشعب على حدّ سواء. لقد فقدت الجمهورية الإسلامية الثقة، وبات الغضب يسيطر على قلوب الناس بدلًا من الخوف. قال أحد الحكماء إنه حين تضرب بيضتَين ببعضهما البعض، تُكسر إحداهما. لكننا لا نعرف من سيصمد ومن سينهزم وينكسر. آمل أن تتم الإطاحة بالنظام. لكن لا ينبغي أن ننسى أن الثورة هي ماراثون وليست سباقًا قصير الأمد.