بقلم/ منصورة حسيني يغانه (موقع “زيتون”)
ترجمة فاخر السلطان
لأول مرة منذ بدء ولادة الجمهورية الإسلامية، استهدف الإيرانيون رجال الدين في انتفاضتهم الإحتجاجية. فقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور شبان يقتربون من رجال الدين ويضربون عمائمهم فيسقطونها على الأرض ثم يهربون. وبعد أيام قليلة انتشرت أيضا صور لفتيات يضربن العمائم. ثم تطورت هذه الظاهرة وتزايدت على عكس ما كان متوقعا، ووجدت منتقدين ومؤيدين لها، وتجاوزت عواقبها حدود إيران حتى واجهت الحكومة أفرادها الذين لم يعودوا يريدون استمرار الحكم الديني! ليس بالأقوال فقط ولكن بالأفعال أيضا.
هذا الثوب ليس “مقدسا”
ادّعت الأجهزة الأمنية في الأيام الماضية أنها اعتقلت بعض من ضربوا العمائم. وتم وصف سلوك المعتقلين، كما جاء في الأخبار، بأنهم “دنّسوا قُدسيّة ملابس رجال الدين”، في وقت يعتقد بعض الباحثين في الشأن الديني أن هذا اللباس ليس له “قُدسيّة” خاصة لكي يقال لشخص ما بأنه يريد “تدنيسها”.
يقول الباحث في الشأن الديني “مصطفى دانيشغر”، نقلا عن مصادر إسلامية، إن ربط ملابس رجال الدين بنبي الإسلام ليس له أي أساس تاريخي، وأن لباس نبي الإسلام كان جزءا من “عُرف” ذاك الزمان. ويشير “دانيشغر” إلى بعض الروايات التي لا تعتبر حتى لباس الإمام الأول للشيعة (الإمام علي بن أبي طالب) شبيهاً بلباس نبي الإسلام، ويقول أيضا إن ذرية الإمام علي لم يتبعوا نمطا معينا من اللباس، وأن الرسومات المتبقية من العصر الصفوي لم تظهر ارتداء رجال الدين الشيعة مثل هذه الملابس في تلك الحقبة، ويمكن الإشارة في ذلك إلى ملابس العلامة “المجلسي”.
يعتقد “عبد الله ناصري”، المتخصص في التاريخ الإسلامي، في مقابلة مع موقع “زيتون”، أن “هذا الثوب لا علاقة له إطلاقا بالدين والروايات التاريخية الصحيحة. إن توثيق هذا الثوب على أنه لباس النبي هو تزييف تاريخي، لذا ليس لهذا الثوب تاريخ لكي يتم تحليل الموضوع بصورة تاريخية. وفي العصور القديمة، لم نجد وثيقة تشير إلى نوع معين من اللباس (الديني). لذا ليس لهذا اللباس قداسة ولا أصالة. وقبل الثورة الإسلامية عام 1979 بفترة تصل إلى أقل من قرنين كان هناك نوع من اللباس، لكن لم يلتزم بلبسه جميع علماء الدين”.
من ناحية أخرى، تُظهر الروايات التاريخية أن “قدسية” لباس رجال الدين كانت وسيلة للاحتجاج. وقبل أن يكون للباس علاقة برجال الدين في قم، ارتبط تاريخه بقِدَم تاريخ الكنيسة في روما. حتى القساوسة حينما أرادوا إظهار احتجاجهم، فإن أول شيء كانوا يفعلونه أنهم يخلعون الرداء الديني الرسمي.
ولعل قصة ترك “مارتن لوثر” لرداء الكهنوت هي الأبرز في هذا الصدد.
وفي إشارة إلى النزاعات التاريخية والسياسية بين اليهود والمسيحيين، توضح الباحثة في الشأن الديني “فُروغ بهمني” أنه في السنوات الأخيرة، في 1982 و2007 وكذلك في فبراير 2022، اعتدى اليهود المتطرفون في فلسطين على أشخاص يرتدون زي الرهبان المسيحيين. ولم يكن لهذه الاعتداءات علاقة بالمسيحيين، وإنما بالقساوسة الذين كانوا يرتدون ملابس دينية، حتى أنهم بصقوا عليهم. لذلك، وفق “بهمني”، لا تخص مسألة الاحتجاج على الملابس الدينية المسلمين والمذهب الشيعي، بل هي متجذرة في تاريخ النزاعات الدينية في العالم.
من فتحَ أبواب ضرب العمائم؟
على الرغم من أن هذه الحركة الاحتجاجية (ضرب العمائم) تُمارس للمرة الأولى من قِبَل الناس العاديين في إيران، إلا أن تشجيع هذه الحركة الاحتجاجية يتشابك مع تاريخ الثورة الإسلامية.
فأوّل من طالب الشباب وبصورة علنية أن يزيلوا العمامة عن رؤوس “ملالي البلاط” كان آية الله الخميني، حيث أراد من خلال ذلك توجيه رسالة بأن حياة الملالي الذين يأتمرون بأمر النظام الملكي لن تكون آمنة.
بعد انتصار الثورة الإسلامية، وعلى عكس ما قيل، لم تُحفظ “قداسة رجال الدين” في إيران، بل إن هذه القداسة كانت فقط لرجال الدين المنحازين لسياسات الجمهورية الإسلامية.
بعض مراجع الدين المنتقدين للحكومة، كسيد كاظم شريعتمداري، وحسين علي المنتظري، وسيد محمد الحسيني الشيرازي، وسيد محمد الروحاني، وسيد حسن الطباطبائي القمي وغيرهم… هؤلاء بسبب عدم توافقهم مع سياسات النظام الإسلامي، تمت إهانتهم أو وضعهم رهن الإقامة الجبرية.
في عامي 1998 و1999، حينما كان لرجال الأمن المتخفين “بالملابس المدنية” دور بارز في السيطرة على المحتجين في إيران آنذاك، قام هؤلاء بضرب العمامة ورميها من على رؤوس شخصيات سياسية/ دينية بارزة، مثل مهدي كروبي (رئيس سابق للبرلمان) وهادي خامنئي (شقيق المرشد) وعبدالله نوري (وزير داخلية سابق)، ولم ترد تقارير عن اعتقال ومحاكمة من قاموا بهذا العمل.
لباس الحكّام، لباس الطغاة
بعض منتقدي ضرب العمائم في هذه الأيام لا يعتبرون الخطوة “منصفة”. من هؤلاء الصحفي والناشط السياسي “أحمد زيد أبادي”، الذي كتب على حسابه على تويتر: “رجال الدين الذين يشغلون مناصب عليا في النظام، لا يظهرون في العادة علنا، وإذا ظهروا فإنهم يتمتعون بالحماية والرعاية اللازمتين. لذلك، لن يستهدف هذا السلوك (ضرب العمائم) إلّا الأبرياء، ومن ثم فإن جرم هؤلاء الوحيد هو أنهم لبسوا العباءة والعمامة!”.
وقال “زيد أبادي” في لقاء مع موقع “زيتون”: “طبقة رجال الدين، كالطبقات الأخرى، ليست موحدة. وأفرادها ليسوا متشابهين. كل رجل دين له شخصية محددة ويحمل بصيرة خاصة، لذلك يجب الحكم على أداء كل واحد منهم بشكل منفصل ومستقل”.
يعتقد الصحفي والباحث في الشأن الديني “محمد جواد أكبرين”، أن مؤيدي ضرب العمامة لديهم دليلين اثنين لا يمكن ببساطة تجاهلهما. الأول أن مشكلة المحتجين مع رجال الدين تتجاوز الموضوع السياسي. فرغم أن قلة من رجال الدين قد عارضت سياسات النظام، إلا أن هذه القلة ظلت ساكتة لعقود أربعة ولم تحتج على هجوم النظام الممنهج على أسلوب حياة الناس وعلى لباس النساء والرجال، والتزمت الصمت تجاه قانون الحجاب الإلزامي بحجة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وباعتبار أن ذلك الصمت عكس “رضا” المجتمع عنهم. النقطة الأخرى التي يؤكد عليها بعض أنصار ضرب العمائم هي أن هذا السلوك هو أحد صور النضال المدني غير العنيف. ويعتقدون أن الاعتداء على اللباس (الديني)، والذي هو رمز للاستبداد الديني، يأتي في إطار النضال غير العنيف.
ماذا يمكن فعله؟
في شبكات التواصل الاجتماعي، ينصح بعض الأشخاص، بمن فيهم شخصيات مقربة من الإصلاحيين، الناس والشباب بتجنب ضرب العمائم، ويعتبرون ذلك أحد صور العنف ضد اختيار الناس للباسهم. ومع ذلك، وفي ردّهم على هذه النصيحة، يذكّر العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي هؤلاء الأشخاص “بكيفية اعتقال النساء غير الملتزمات بالحجاب، من خلال استخدام وسائل القبض على الحيوانات” ويعتبرون ذلك مثالا على العنف، أمّا ضرب العمامة فلا يعتبرونه سلوكا عنيفا.
في ظل كل هذا التجاذب، يعتقد محمد جواد أكبرين أن الحل الوسط ليس مخاطبة الشباب وتقديم النصح لهم، بل ينبغي نصح الأقلية من رجال الدين الذين حافظوا على كرامتهم وابتعدوا عن السلطة، في أن يتفهّموا دوافع هذا الاحتجاج، وأن يلتزموا حتى إشعار آخر عدم الخروج إلى الشوارع مرتدين ملابس رجال الدين حتى يحافظوا على احترامهم.
وكتب مصطفى دانيشغر على تويتر: “إذا كان رجال الدين الشيعة قلقين من الاعتداء على رجال الدين وضرب العمائم وفي نفس الوقت لا يريدون التخلي عن لباسهم، فيمكنهم تغيير طريقة لبسهم، مثل تعليق العمامة من الجانب، كدليل على تعاطفهم مع الأبرياء، وكإشارة على احتجاجهم على الحكم الديني.
یقترح الناشط السياسي والمتخصص في التاريخ الإسلامي “عبد الله ناصري” أن يتحدّى رجال الدين أنفسهم “بنزع لباسهم الديني”، وقال: “بالتأكيد، أن ‘المقارنة’ بين عملين شعبيين، أحدهما هو ‘خلع العمامة’ من قبل رجل الدين والثاني ‘خلع’ الحجاب، والوعد بتعاطف رجل الدين مع المرأة، من شأنه أن يخفف من عبء إهمال الدين من قِبَل ملالي الجمهورية الإسلامية”.
نضال العلمانية مع النظام الديني
من الشعارات التي أطلقها الناس منذ بدء الاحتجاجات ورحب بها كثيرون، هو شعار “لا نريد جمهورية إسلامية“. من الواضح أن هذا الشعار يشكّك في أحد الركائز الأساسية لهذا النظام، ألا وهو حكم الإسلام. حيث يطالب المحتجون بتغيير الحكومة الدينية وتشكيل حكومة علمانية. فيما يعتقد البعض أن الشعارات التي كانت حتى سنوات ماضية متلوّنة بلون العقائد المذهبية، لم تعد مقبولة بين الناس في هذه الفترة من الاحتجاجات، وأن الحركة الاحتجاجية وشعاراتها لم تعد تحمل وجهة دينية.
يقول الصحفي والناقد الأدبي “فرج سركوهي” إنه لم يتم تضمين الحركة الثورية الراهنة أي رمزية دينية. هو يعتبر هذه الثورة حركة “غير دينية”، ويوضح أنه عند بروز حركة علمانية فإنها ستكون في مواجهة مع رجال دين يطالبون بمكانة خاصة لهم، في حين أن أحد مؤشرات الحركة العلمانية هو عدم وجود امتيازات خاصة ومناصب معينة لجماعة بذاتها.
وفي إشارة إلى حركة ضرب العمامة التي تقوم بها بعض النساء، يقول سركوهي: “ساهمت المرأة في إزالة رمز القهر والتمييز والاستبداد عن رؤوس النساء، كما ساهمت في إزالة التقديس عن اللباس السلطوي المقدس”.
واعتبر سركوهي أن ذلك هو تجسيد لثورة “المرأة، الحياة، الحرية“، كما اعتبره وعدا بمستقبل تنتزع فيه السلطة والنظام الريعي الاقتصادي والسياسي والثقافي من الملالي، ويتم توفير المساواة بين جميع المواطنين في ضوء الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من اعتقاده أن “لدينا أيضا ملالي بعيدين عن السلطة”، إلا أنه يصف لباس الملالي في إيران بلباس النظام الريعي والاستبداد.
على الرغم من أنه قد تم منذ سنوات عديدة السخرية من مؤسسة الدين وتدنيس لباس المبشرين الدينيين في العالم، وتم عمل مئات الأفلام الكوميدية والدراما والرعب حول القساوسة والراهبات، إلا أن هذا الأمر لا يزال غير مقبول في إيران وبعض المجتمعات المسلمة الأخرى.
المرة الوحيدة التي ظهر فيها فيلم كوميدي عن رجال دين واسمه “مارمولك” (السحلية) ونشر في دور السينما الإيرانية، وكان لمجرد المزاح مع هذه الشريحة من المجتمع، لاقى اعتراضا شديدا من قبل مراجع الدين والملالي وطلبة الحوزات الدينية، وبعد أيام قليلة من عرضه في السينما تم منTaعه من العرض. في حين أنه، وهنا المفارقة، تم إنتاج هذا الفيلم على ما يبدو دفاعا عن رجال الدين.