في 22 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي أُسقطت طائرة مسيرة أميركية في سماء مدينة بنغازي الليبية التي تخضع لسيطرة المشير خليفة حفتر، ومن المعروف أن الليبيين لا يمتلكون تكنولوجيا قادرة على إسقاط المسيرة الأميركية، كما أنه من المعروف أيضا أن منظومة روسية داخل القاعدة العسكرية “بنينا” هي التي أسقطت المسيرة الأميركية.
تدفعنا بساطة هذه الحادثة لمقارنة أبسط بين الروس الذين يعملون على الأرض والأميركيون الذين يعملون في السماء، وتدفعنا أيضا للتفكير في تعقيدات الدور الروسي في ليبيا، لا سيما فيما يتعلق بحفتر وخلفائه المحتملين.
هل أصبحت العلاقات بين روسيا وحفتر في خطر؟
بلا شك، كانت العلاقات بين روسيا وحفتر متينة منذ سنوات، حيث دعمت روسيا الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر بالأسلحة والخبراء قبل أن يتطور هذا التحالف ليدخل في صفقة شراء خدمات مع مجموعة فاغنر. على سبيل المثال، عملت روسيا في عام 2019 بشكل كبير على دعم محاولة حفتر الفاشلة لانتزاع السيطرة على مدينة طرابلس من حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة – وهي محاولة استمرت على مدى عشرة أشهر.
ومع ذلك، لم يكن التعاون على المدى الطويل بين حفتر وروسيا معصومًا من الخطأ كما قد يبدو، حيث تشير تغطيتي للعمليات العسكرية التي قام بها حفتر حول طرابلس في عام 2019 إلى أنه رغم أهمية الدعم العسكري الروسي لحفتر، إلا أن معسكر حفتر اعتبر هذا الدعم غير كافي إلى حد كبير. ومن ثم، زاد هذا الموقف من إحباط القادة العسكريين الميدانيين في الجيش الوطني الليبي مثل الرائد فوزي المنصوري.
رغم أن التحالف بين الروس وحفتر قد يبدوا قويا، إلا أنهم لا يثقون به، وعدم ثقة الروس في حفتر هو انطباع عام وشهادة من أهم مستشاري قيادة الجيش في منطقة الرجمة الذين خضت معهم نقاشا حول علاقتهم بالروس، بالإضافة إلى جنرال معروف وقريب من المشير حفتر. وفي هذا السياق، تعمق هذا الانطباع عندما انسحبت مجموعة فاغنر من جنوب طرابلس بعد دعوات لوقف إطلاق النار من قبل تركيا وروسيا في أوائل عام 2020، حيث اعتبر حفتر هذه الخطوة دليلاً واضحا على مخاوف روسيا بشأن دعمها للجيش الوطني الليبي. وردا على ذلك، رفض حفتر آنذاك الرضوخ للضغوط الروسية للتوقيع على اتفاق وقف أطلاق النار في موسكو وغادر دون أن يوقع. لذلك، فمن المرجح ان يسعى حفتر لتنويع تحالفاته حتى لا يعتمد على روسيا وحدها، خاصة بعد تراجع الدعم الروسي له.
من جانبهم، لا يثق الروس بحفتر رغم تحالفهم معه، ولا يراهنون عليه كشريك، من ناحية، فموسكو تعتبر حفتر “رجل أمريكا” في ليبيا خاصة انه قضى عشرين عاما في فرجينيا حصل خلالها على الجنسية الامريكية.
صارت جنسية حفتر الامريكية اليوم تمثل عقبة كبيرة أمام طموحاته السياسة في ليبيا والوصول إلى سدة الرئاسة من خلال الانتخابات التي تم الاتفاق عليها في منتدى الحوار الليبي، والتي تم تأجيلها منذ عام 2021. ولا يوجد أدني شك ان خصوم حفتر السياسيين سيستخدمون ورقة الجنسية ضده كما فعل رئيس البرلمان عقيلة صالح عندما استخدم ورقة ازدواجية الجنسية ضد مرشحي الانتخابات الرئاسية من قبل في نزاعه مع رئيس المجلس الاستشاري خالد المشري. ومع ذلك، فمن المتوقع أن يتنازل حفتر عن الجنسية الأميركية عندما يصل إلى حافة الهاوية في مواجهته مع القضاء الأميركي الذي يتهمه بجرائم حرب. وفي حال انتخابه، سيجد الجنرال نفسه أيضا أمام أسئلة صعبة عن الاقتصاد والإعمار وانتشال البلاد من أزماتها العميقة. ونتيجة لذلك، قد تسعى روسيا إلى البحث عن شريك اخر للحفاظ على نفوذها في ليبيا.
قضية وريث حفتر؟
أدى انتشارالشائعات حول تدهور صحة حفتر لعدة سنوات إلى المزيد من التعقيدات في العلاقات بين روسيا وحفتر، ما دفع الكثيرين للتساؤل عم من سيخلفه في المستقبل. ورغم وجود العديد من المتنافسين عل الساحة، يبدو على الأرجح أن صدام حفتر – أحد أبناء خليفة – يتم إعداده حاليًا لتولي منصب قيادة الجيش الوطني الليبي المتمركز في شرق البلاد. فوفقا للمعلومات التي نتلقاها على الدوام من المقربين لأبناء حفتر، هناك صراع بدأ يعبر عن نفسه بين صدام وشقيقه بلقاسم في ما يتعلق بعملية صنع القرار حيث يقوم خليفة حفتر بتفويض القضايا إليهما بشكل متزايد. وفي مناسبات كثيرة عارض بلقاسم شقيقه صدام، ولكن في النهاية استطاع صدام فرض رؤيته. وآخر المحكات كانت حين رفض بالقاسم موقف أخيه صدام من قضية وقف إطلاق النار والاتفاق المتعلق بالحصار النفطي بين خليفة حفتر ورئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني عبد الحميد الدبيبة في يوليو.
وفي واقع الامر، عمل صدام على بسط نفوذه إعلاميا وأمنيا والأهم اجتماعيا، ومن المتوقع أن “يبايع” أعيان القبائل وزعماء المجتمعات المحلية صدام قائدا للجيش. وعادة ما تتم تلك المبايعات عبر عقد اجتماع عشائري كبير يحضره أهم ممثلو القبائل في شرق ليبيا. وهذا التوقع الجديد الذي لم يُعلن مطلقا قائم على أمرين: الأول اتصالاتي المستمرة داخل برقة والجبل الأخضر وهي منطقتي ومكان ولادتي حيث تقطنها قبائل الحرابي وفهمت في نقاش حول مستقبل المنطقة بعد وفاة حفتر مع أهم أعيان القبائل أنهم ينوون مع بقية التركيبات الاجتماعية الأخرى النزول بثقلهم القبلي لتأييد صدام حفتر ومباركته كقائد للجيش فور موت المشير حفتر.
علاوة على ذلك، حاول صدام حفتر استقطاب الدعم الدولي والإقليمي – وهو هدف انعكس في زيارته الاخيرة لإسرائيل في تشرين الثاني /نوفمبر 2021، فعلى الرغم من أن صدام قام بالزيارة نيابة عن والده، إلا أن طلبه للحصول على دعم سياسي وعسكري إسرائيلي مقابل علاقات دبلوماسية مستقبلية بين إسرائيل وليبيا، سيمهد الطريق في المستقبل لإنشاء علاقة أقوى بينه وبين إسرائيل. وتعكس تلك الزيارة فهم صدام ومستشاريه للحظة الدولية التي يمر بها الشرق الأوسط للالتحاق بالاتفاقيات الإبراهيمية. وبطبيعة الحال، أثار هذا التطور العديد من التساؤلات حول موثوقية الجيش الوطني الليبي وفائدته بالنسبة لروسيا في ليبيا في فترة ما بعد حفتر.
في الواقع، خلافة صدام لأبيه ليست مؤكدة، فهناك بعض الداعمين التقليديين لحفتر والذين يعارضون في الوقت عينه خلافة صدام لمنصب قائد الجيش، وهؤلاء يمثلون تيارا عقلانيا داخل معسكر حفتر، ويحاولون الإخلاص لفكرة المؤسسات وعدم تحويل الجيش إلى ورث عائلي لحفتر وأبنائه. ومع ذلك، هناك تيارات مهمة اختارت الصمت على تمدد وازدياد نفوذ أبناء حفتر سياسيا وأمنيا واقتصاديا تقديرا لموقف يعتبرونه تاريخيا لحفتر في محاربته للجماعات الجهادية التي سيطرت طويلا على “برقة.” علاوة على ذلك، سيخلف رحيل حفتر فراغا قد تستغله للجماعات الإسلامية لتعيد تموضعها في شرق ليبيا، وتدخل في تحالفات مع مجموعات أخرى هاربة من بنغازي ودرنة مثل مجموعات “إبراهيم الجضران” ومجموعات “مجالس الشورى” الجهادية. وتنظر تلك الجماعات إلى صدام وحتى بالقاسم على أنهما استمرار للاستقرار النسبي الذي سيخلفه حفتر.
أين تقف الولايات المتحدة؟
مع التواجد الروسي غير المستقر في ليبيا، وطرح العديد من التساؤلات المتعلقة بورثة حفتر، لا يبدو واضحا ماذا يمكن أن تقدم الولايات المتحدة لتعزيز الاستقرار والسلام في ليبيا. هل من المجدي للولايات المتحدة أن تستثمر في علاقة جديدة مع صدام حفتر، أم أن الوريث الجديد لحفتر سيأخذ خطوات أقرب للروس كاستراتيجية لبداية حكمه في مساحة ثلثي ليبيا، وللفت انتباه الأميركيين واهتمامهم من خلال تعميق علاقته بالروس؟ هل ينبغي على الولايات المتحدة ان تعمل على التقارب مع حفتر-على المدى القصير – في ظل علاقته المتقلبة مع روسيا، أم أن التعقيدات الأمنية والسياسية العديدة المتأصلة في موقف حفتر لا يمكن التغلب عليها؟
تواجه اليوم إدارة بايدن ثلاث ملفات مهمة في ليبيا تجعل ليبيا هدفا لا مفر منه للاستراتيجية الامريكية الخارجية، أولهم ملف الإرهاب الذي بدأ في اتخاذ أبعاد خطيرة في الجنوب الليبي وجنوب غرب ليبيا، فمع نشوب الفوضى الداخلية وسط تأجيل العملية الانتخابية والفوضى الناجمة عن الوضعية التنافسية بين حكومة فتحي باشاغا وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة بقيادة الدبيبة، يمكن لهذا التهديد الإرهابي أن يستغل الوضع الحالي في البلاد بسهولة لتأسيس موطئ قدم أكثر ثباتًا في ليبيا. ثانيًا، غالبا ما تبقى ليبيا لاعبًا مهمًا في المناقشات المتعلقة بالطاقة العالمية، خاصة بعد تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث تحاول روسيا بسط سيطرتها على النفط الليبي من خلال مجموعة فاغنر شبه العسكرية التي تتواجد قرب بعض الحقول النفطية مثل حقل الشرارة. أما الملف الثالث، فهو ملف الروس أنفسهم ودورهم في ليبيا، فلا يبدوا ان الروس سيتخلون عن هذا الدور قريبا. ومع استمرار تطور الاوضاع الداخلية في ليبيا، ومع وجود حكومة جديدة محتملة في الأفق، تحتاج الولايات المتحدة إلى تبنى خطابا أكثر وضوحا بخصوص علاقاتها بليبيا ومواقفها تجاه الفصائل المتنافسة في البلاد.
خليل الحاسي هو كاتب وصحفي ليبي مستقل. تركز كتاباته على الشئون السياسية الليبية الداخلية، وحقوق الانسان، ونقد التراث الديني.