التخبّط اليوم في أقصى حدوده، الازمة تهدد كل كيان الدولة، لقمة عيش المواطن، الوظائف والودائع، العائلات وصلت الى تحت خط الفقر، والأخطر هو انهيار الثقة.
في ظل كل ذلك، لا تزال الحكومة تفاوض وتبحث عن سبل للاستدانة مجدداً، أي الى تكبير حجم الدين العام ليبقى لبنان رهينة دَينِه الى سنوات عدة مقبلة، في اختصار إعطاء إبرة مورفين وتأجيل وتكبير الانفجار بدلاً من المعالجة الجذرية للأزمة.
المواطن اللبناني يتفرّج على الانهيار، يراقب، ودائعه تتم سرقتها بطرق ملتوية ويرى جنى عمره يتبخّر ومعيشته مهددة. والأسوأ انه لا يعرف التفاصيل والحقيقة الكاملة، ويجهل خفايا المفاوضات التي تتم باسمه اليوم والتي ستقرر مصيره ومصير أولاده لأجيال مقبلة.
المطلوب اليوم الحقائق الكاملة بشفافية امام المواطن:
– لائحة مفصّلة بأرقام الدين العام.
– من هو المدين، أي صاحب الدين؟
– من طلبَ الدين من المسؤولين، ووقّعه، ووافق على شروطه، وفي أي تواريخ؟
– ما الفوائد الموضوعة على الدين، وتاريخ استحقاقها؟
– لقد انخفضت الفوائد العالمية، فهل انخفضت على ديوننا؟ وهل تفاوضنا حول هذه الفوائد؟ هل هي ثابتة، ولماذا؟
الحقائق يجب ان تكون واضحة. وأتوجّه الى الشعب اللبناني: لا تقبلوا اي خطوة جديدة قبل ان تنكشف كل الارقام وتعرفوا الحقيقة كاملة.
ولا تقبلوا اي أموال قبل التأكد من انها لن تُنهب. وتطبيق ذلك يتطلب شروطاً أهمها الشفافية المطلقة والبيانات المفتوحة ليعرف المواطن مصير كل قرش يدخل ويخرج.
أكرر أنّ الحكومة تصرّ على خيار الاستدانة رافضة اي خيارات اخرى، أهمها بيع الدولة لقسم من اراضيها وعقاراتها خصوصاً غير المفيدة والتي لا جدوى اقتصادية لها كوسيلة لسد الدين العام والهروب من دين اضافي سيكون مدمراً على لبنان.
التمسّك بالاراضي والاملاك اليوم هو خيار غير مفهوم. فالاراضي غير المستعملة كثيرة، منها الاراضي البحرية لخطوط سكك الحديد، وهي لن تصلح لسكة قطار سريع بسبب طبيعة الارض المتعرجة بالاضافة الى انّ سعر الارض مرتفع وليس فيها إفادة للدولة، ولكنها مفيدة جداً للقطاع السياحي والبحري. فيجب أن تُباع وأن تعمد الدولة الى استملاك خط مستقيم في وسط لبنان، من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال، تُبنى عليه فيما بعد وسائل النقل التي نحتاجها. وهو موضوع كبير ومهم سنتطرق اليه لاحقاً.
وفي كل مرة نطرح هذا الخيار، ترتفع الاصوات الرافضة أنّ هذه الاراضي هي ملك للأجيال المقبلة! ولكن هل الافضل ان نورث الاجيال المقبلة الدين وبلداً لا ثقة به وغير قادر على ان يؤمّن لهم أبسط الحقوق؟
وأشدد مجدداً على انّ تطبيق الشفافية المطلقة هو اساسي قبل الانطلاق في أي خطوة من هذا النوع لضمان عدم وجود صفقات وتمريرات وهدر، وكي لا نخسر الاموال مجدداً كما حصل سابقاً. وأيضاً، اية “صناديق” مرفوضة لأنّ تجاربنا مريرة في هذا السياق.
ولكل المشككين بهذا الطرح أقول: خسارة الثقة أخطر من خسارة الاراضي، الأراضي تستطيع الدولة ان تشتري بديلاً منها، ولكن ما هو البديل عن الثقة؟
إنّ «الهيركات» وتقليص عدد المصارف يؤديان الى إخراج لبنان من النظام المصرفي العالمي، وكأنّ المطلوب تدمير القطاع وإنهاء دور لبنان كمقصد مصرفي.
ختاماً، أتوجّه الى كل من نَهب البلد: الناس تعرفكم جيداً، الغريب انه في بلدان اخرى لن أسمّيه يتم سجن مسؤول سياسي بسبب 50 ألف دولار، وتتم محاكمة مسؤولين حتى لو كان هدراً بسيطاً، امّا عندنا فلا يدخل السجن ولا يحاسب ولا يحاكم، والأسوأ يستمر في التصريح من على المنابر بثقة وتحدٍ. صورة مؤسفة.
وأقول لمَن نهبوا البلد ان ينظروا الى نتيجة أفعالهم، هناك عائلات تجوع، وشبّان فقدوا آمالهم وينتظرون الهجرة، وناس تعبوا وشقوا وخسروا جنى أعمارهم، وبلد مدمّر ومستَنزف. هذه هي نتيجة افعالكم الواضحة والتي بات الناس يعرفونها جيداً.
قد لا تنجح عدالة الارض في محاسبتكم، كما قد لا يتمكّن من أفقرتموهم وجَوّعتموهم من أن ينالوا منكم.
ولكن هل ستستطيعون النوم ليلاً؟
ألا تتذكرون الآلاف الذين دمّرتم حياتهم عندما تضعون رؤوسكم على المخدة؟
هل ستهربون من عدالة السماء؟ وماذا ستقولون حين تواجهون الخالق للمحاسبة؟
أتذكرون انّ هناك يوم القيامة ويوم الدين حيث الحساب الحقيقي الأبعد من محاكم الارض وعدالتها؟
تذكروا ذلك جيداً.
نصيحة أخيرة، لا تورثوا أولادكم صيت المال المنهوب. فالاعمال السيئة تلاحق أصحابها حتى بعد الممات. في 23 حزيران الجاري، قامت مجموعة مناهضة للعنصرية بتشويه تمثال جان بابتيست كولبير Jean-Baptiste Colbert (1619-1683) في فرنسا وسط مطالبات بإزالة تماثيله. كان بابتيست المراقب العام للمالية في عهد لويس الرابع عشر ومؤلف القانون الاسود CODE NOIR الذي يشرّع وينظّم تجارة الرق في المستعمرات الفرنسية. بعد اكثر من 300 عام على موته، يُحاكمه الشعب بسبب أفعاله المخالفة لحقوق الانسان ويطالبون بمحو الرموز التي يجسّدها.
هذا إثبات على انّ الظلم والسيئات لا تُنسى وتبقى في الذاكرة الجماعية للشعوب الى أن يحين وقت المحاسبة، كما لا هروب من يوم الدين.