راهن سلطان تركيا “رجب طيب أردوغان” على إنتزاع إسطنبول، عاصمة الخلافة العثمانية ودرة الحواضر التركية وأكثر مدن البلاد سكانا (16 مليون نسمة)، من أيدي خصومه عبر الطعن في نتائج الانتخابات البلدية التي أجريت في أواخر مارس المنصرم، والتي خسر فيها مرشح “حزب العدالة والتمنية” الحاكم رئيس الحكومة السابق “بن علي يلدريم” لصالح مرشح المعارضة “أكرم إمام أغلو“. غير أن رهانه هذا لم يفشل فحسب وإنما ورّطه وأدخله نفقا مظلما قد لا يخرج منه إلا وهو هالك سياسيا.
فما كان يتمناه السلطان لم يتحقق. إذ جاءت نتائج إقتراع الإعادة يوم الأحد 23 يونيو المنصرم مخيبة لآماله وملحِقة به وبحزبه وبمرشحه هزيمة مدوية ستكون لها تداعيات كبيرة وكثيرة على مستقبل تركيا السياسي في القادم من الأيام.
لقد سطّر المقترعون الأتراك في جولة الإعادة ملحمة ديمقراطية عظيمة وأثبتوا، من خلال نتائجها أنهم ضد أردوغان وحزبه وشهيته المفتوحة للإمساك بكل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد من حديد. وهي شهية ظهرت تجلياتها في تغييره للنظام في تركيا من برلماني إلى رئاسي في يونيو 2018 بموجب نتائج إستفتاء أجراه في إبريل 2017. ولهذا لم تكن هناك أدنى مبالغة في ما قاله رئيس حزب العمال التركي المعارض “أركان باريش” من أن أردوغان لم يخسر إسطنبول فحسب في إنتخابات الإعادة، بل خسر تركيا بأكملها، ولقّنه الأتراك درسا قاسيا ضد محاولاته الهادفة إلى الإستفراد بالسلطة من خلال تغيير الدستور وقمع المعارضة وتكميم الأفواه وتهديد النخب المدنية والعسكرية بالإعتقال بتهمة التعاون مع الداعية المعارض المقيم في الولايات المتحدة “فتح الله غولن“.
ويمكن فهم مدى وجع الطعنة التي تلقاها “السلطان” من حقيقة أنها جاءته من سكان إسطنبول تحديدا وليس غيرها من المدن التركية. فإسطنبول تعني له الكثير لأنها كانت الجسر الذي أوصله إلى زعامة البلاد، يوم أن فاز برئاسة بلديتها سنة 1994 وظل عمدة لها على مدى سنوات أنجز خلالها الكثير لسكانها. وبالتالي فإن خسارتها اليوم لا بد وأن تثير لدية اسئلة عديدة على رأسها “هل يا ترى بدأ العد العكسي لخروجه من المشهد مثلما حدث لغيره؟“.
ففي الوقت التي تعاني فيه تركيا أردوغان من أزمة إقتصادية ومعيشية متفاقمة بسبب انخفاض سعر العملة الوطنية (الليرة)، وتعاني من توتر سياسي مع واشنطون بسبب اصرار أنقرة على شراء منظومة صواريخ “إس 400″ الروسية، وتوتر سياسي آخر مع الإتحاد الأوروبي بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها حكومة أردوغان منذ ما قبل محاولة الانقلاب المزعومة في 15 يوليو 2016، وخلافات مع جمهورية مصر العربية ودول الخليج العربية (عدا قطر) جراء احتضانها ودعمها لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، علاوة على معاناتها من خسارة نفوذها في السودان وليبيا بعد سقوط نظام البشير في الأولى وترنح نظام السراج في الثانية.. في هذا الوقت نجد أن الأوضاع السياسية الداخلية مقبلة على تطورات لا تصب في مصلحة أردوغان وحزبه الحاكم.
من هذه التطورات، تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية وإحتمال حدوث إنقسامات في صفوفه على خلفية خسارته لرئاسة بلدية إسطنبول والأسلوب الذي أدار به المعركة الإنتخابية، ومنها إحتمال ظهور أحزاب جديدة على الساحة السياسية التركية سعيا وراء الإستفادة من ضعف الحزب الأردوغاني الحاكم وجذب المنشقين عن الأخير إلى صفوفها. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن الأوساط السياسية التركية تتداول منذ مدة إحتمال إقدام رئيس الوزراء الأسبق “أحمد داوود أغلو” على تأسيس حزب جديد بمباركة من رئيس الجمهورية السابق “عبدالله غول“، واحتمال أن ينحو نائب رئيس الوزراء ووزير الإقتصاد والخارجية الأسبق “علي باباجان” ذات المنحى، فيشكل أيضا حزبا جديدا، علما بأن كل الرجال الثلاثة (أوغلو وغول وباباجان) كانوا رفاقا لأردوغان ورموزا بارزة في حزبه، لكنه تخلص منهم تدريجيا أو انفضوا عنه تباعا بسبب سياساته الديكتاتورية. وهذه الحقيقة مهمة لأنه في حالة تشكيل هؤلاء لأحزاب جديدة فإن الكثيرين من أصدقائهم ومناصريهم في حزب العدالة والتنمية سيلتحقون بهم.
ويعتقد الكاتب التركي أحمد طاقان (مستشار الرئيس عبدالله غول سابقا) في مقال كتبه تحت عنوان “نفذ صبر المعارضين داخل العدالة والتنمية“، ونشره في صحيفة “يني جاغ” التركية أن ما لا يقل عن 80 نائبا أوردغانيا في البرلمان سينشقون على “السلطان” ويلتحقون بالأحزاب الجديدة فور الإعلان عن تأسيسها.
Elmadani@batelco.com.bh
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص بالشأن الآسيوي من البحرين