بعد ان انهيت دبلوم الدراسات المعمقة في الرياضيات في باريس وحصلت على منحة دكتوراه من كلية العلوم، اتصل بي استاذي وصديقي د. ابراهيم الحاج، وكان مديرا لكلية العلوم الفرع الاول، وتمنى علي ان اتابع الدكتوراه في انكلترة نظرا لحاجة الكلية لتنويع مصادرها العلمية واللغوية. لم يكن تمنيا صعبا، خصوصا ان جزءا مهما من عائلتي كان يسكن في لندن.
في العادة لا تقبل الجامعات الانكليزية تسجيلا في Ph.d من خلال DEA التي لا تعادل “ماستر” في بريطانيا قانونيا.
لكن زميلي هلال رحال (المهووس الى جانب الرياضيات بـ”إلفيس برسلي” والذي اسس لاحقا فرقة “ارابيسك” واعتمد اسم تيدي لان) والذي كان قد انجز ماستر في الرياضيات في جامعة لندن تبرع باقناع البروفسور المشهور بول كوهن بلقائي. وكان كوهن رئيس قسم الرياضيات في “بدفورد كوليدج” التابعة لجامعة لندن والتي تقوم في مبنى تراثي في ريجنت بارك الذائعة الصيت.
ومع أن هلال كان رياضيا من الدرجة الأولى، إلاّ أن ولعه بالموسيقى والغناء كان دافعه الرئيسي لاستدراجي للندن، علّني أقدمه لأخي الراحل عبدول المتمكن آنذاك في عالم الفن والموسيقى والترفيه في العاصمة البريطانية.
كم تهيبت لقاء د. كوهن والذي حصل في صيف ١٩٨٠، خصوصا إنني أعلم كم هو بارز في عالم الرياضيات والجبر خصوصا، وكم سررت حين قرر قبولي والإشراف على اطروحتي.
لقد بنى د. كوهن موافقته المباشرة على متابعتي في باريس لمواضيع ودروس في الجبر للبروفسور كراسنر، وهو عالم رياضيات من اصل روسي، هاجر من مدينة “منسك” مع تعزز سيطرة ستالين على الدولة السوفياتية.
ما إن هدأ التوتر الذي كنت اشعر به حتى دخل د. كوهن في حديث عن لبنان، مشيراً الى حزنه لما يمر به لبنان وفلسطين من حروب وانقسامات، محاولا الاشارة الى انه رغم يهوديته الظاهرة فهو يؤمن بالسلام خصوصا في الأراضي المقدسة.
ثم فجأة ارجع كرسيه للوراء و قال مزهوا انه زميل مايكل عطية، عالم الرياضيات البريطاني الأبرز والحاصل على field’s medal (معادِلة لجائزة نوبل) وجائزة أبال وجوائز مهمة اخرى، ملمحا الى ان بلدا ينتمي له بالاصل مايكل لا شك بانه ذو شأن عظيم، وقد رحل بروفيسور كوهن في ٢٠٠٦ بعد ان قدم الكثير لملكة العلوم.
ومايكل هو بريطاني من اب لبناني يدعى ادوارد، وكان ادوارد ناشطا سياسيا وكاتبا وباحثا اكاديميا درس في اوكسفورد حيث قابل زوجته الاسكتلندية والدة مايكل، كما رأس في مرحلة ما مكتب الجامعة العربية في لندن، وكان نهضويا كما تشي كتاباته بذلك خصوصا كتاب العرب الصادر سنة 1955.
لم يولد مايكل في لبنان، بل ولد في الاسكندرية التي ذهب اليها والداه من بريطانيا وعاش طفولته في الخرطوم حيث عمل والده. علما ان ادوار قضى جزءا من طفولته في مصر والسودان مع والده الطبيب سليم الذي كان من اوائل المتخرجين من الجامعة الاميركية في اواخر القرن التاسع عشر والذي تتلمذ على يد الانفتاحي “كورنيليوس فان ديك” الذي عارضه كُثر من رفاقه الانجيليين لانفتاحه الواسع على جميع انواع العلوم بما فيها نظرية التطور لداروين.
عائلة سليم عطية سكنت في “سوق الغرب”، مسقط رأس زوجته، قبل الهجرة، ولكن سليم هو اصلا من بلدة “بينو” في عكار، وهي بلدة تراثية جميلة ولكنها شبه فارغة، اذ ينتشر اهلها في اوروبا والاميركيتين.
وكان من المعتاد أن يذهب المتخرجون اللبنانيون القلائل من الجامعة الأمريكية للعمل في البلاد العربية المهيمن عليها من بريطانيا، نظرا للسيطرة الفرنكوفونية على المهن الأساسية في لبنان وسوريا آنذاك.
درس مايكل في الخرطوم و القاهرة، ثم التحق بـ”كلية فيكتوريا” في الاسكندرية وتابع الدكتوراه في “ترينيتي كولدج” في كامبريدج التي علم فيها وانتج فيها معظم نظرياته في الطوبولوجي والهندسة الجبرية، كما علم في أهم جامعات أميركا والعالم كـ”برنستون” و”هارفارد” و”يال”. وقد ساهمت نظرياته بتقدم الفيزياء النظرية أيضا، خصوصا في مجالي الفيزياء الكمية والنسبية العامة، لذا اعتبره البعض عالم فيزياء ايضا، وترأس سير مايكل الاكاديمية الملكية البريطانية (royal society) لفترة من الزمن.
ومن الطريف والعجيب أن سير مايكل حل مؤخرا “فرضية ريمان” في توزيع الأرقام الأولية وهي تعتبر من أصعب الفرضيات التي يحاول علماء الرياضيات حلها منذ 160 عاما.
لم احظَ بفرصة التعرف على سير مايكل في بريطانيا، بل في لبنان وفي مؤتمر عن الرياضيات نظمته الجامعة الاميركية في اطار انشائها مركز ابحاث الرياضيات في الجامعة بتشجيع من مايكل، حيث استمعت لمحاضرة له القاها بعد تكريمه في فندق “البستان” شرح خلالها مجالات البحث النظرية في القرن ٢١.
وشعرت خلالها بالفعل انني امام فيلسوف حديث ورياضي مبدع في آن، كما تلمست لاحقا الجانب الانساني والادبي والثقافي في مايكل عطية.
لقد اسعدنا ان هذا العملاق الودود والذي يكتب الشعر ايضا. كان فخورا بلبنانيته وعروبته، لدرجة انه اسهم لاحقا في تأسيس “الاكاديمية اللبنانية للعلوم”، في محاولة لتشجيع الاكاديميين اللبنانيين على البحث العلمي.
ولقد اقامت الاكاديمية الوليدة ورشة علمية تشجيعية في اوائل القرن ٢١ في “بلازا اوتيل” في الحمرا، شارك في محاضراتها اعضاء بارزون كـ”شارل عشي” الذي يشرف على فريق “النازا” المختص في انزال سيارات الية على المريخ و إدغار شويري واخرون.
إلاّ أنّ حظنا، نحن الرياضيين، كان عاثرا بعض الشيء، لجهة تخلف مايكل عطية عن الحضور الى لبنان بسبب وعكة صحية المت به في اللحظة الاخيرة.
لقد رحل مايكل عطية مؤخرا عن هذه الدنيا، تاركا ارثا علميا وانسانيا عالميا لا يمحى.
كما ان بصماته في لبنان والعالم العربي يجب ان تحثنا على الانكباب على اعمال العقل في حياتنا، وعلى البحث العلمي الحقيقي.
وهو ما يشكل الرافعة التي يمكن ان تنتشلنا من الدرك الذي وصلنا اليه الى حيث يجب ان نكون في مصاف الامم المتقدمة والتي سمحت لعبقريات مايكل وشارل وآخرون ان تتظهر بابهى حلاتها.
كتبت إحدى المجلات الانكليزية بعد وفاة مايكل:
انه الشخصية العلمية البريطانية الأهم بعد نيوتن، وقالت اخرى انه كان اهم عالم رياضيات في القرن العشرين، واشاد الجميع بصفاته الإنسانية وانفتاحه على الثقافات والشعوب وهو الذي أسس منظمة تعنى بالسلام ولعب أدوار كبيرة في هذا المجال خصوصا بين الهند وباكستان.
فوداعا مايكل، ووداعا كوهن ايضا.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان