بعد أن تراجع الرئيس بشارة الخوري عن تخطي الدستور لتمديد فترة حكمه، علّمنا الرئيس شهاب بالممارسة أن من واجبنا أن نكون مخلصين للدستور ولما نص عليه من تعايش واقتصاد حر. وكان كلما وقعت مشكلة يقول “فلنعد إلى الكتاب”. كأنه يضعه بمقام الكتب المقدسة.
لم يسبق أن عرف لبنان في تاريخه انتهاكاً صارخاً للدستور كما يحصل في عهد الرئيس عون.
مسيرة التقهقر بدأت تمارينها مع التسليم الدولي والاقليمي لنظام الاسد بوضع يده على لبنان وتغاضيهم عن تعطيله مفاعيل اتفاق الطائف. مروان حمادة يذكّرنا دائماً ما قاله له الرئيس الراحل الحريري عندما مزّق ورقة من بيان لأنها تذكر اتفاق الطائف، قائلاً “بدّك تدهورنا”؟
لكن الرئيس الاسد كان أذكى وأكثر دهاء من أن يتبجح علنا باحتلال لبنان. وظلت الدولة اللبنانية تحافظ، ولو شكلياً، على الدستور والقوانين.
لكن منذ العام 2005 بدأت ممارسة تمارين وضع اليد الفجّة على الدولة وتعطيل الآليات الدستورية ومنع تطبيق القوانين والأعراف واختراع اخرى غيرها. ومورست جميع انواع الضغوط، بداية بخجل، ثم استفحلت بعد حرب تموز 2006. خصوصاً أن حزب الله كان وضع في جيبه تفاهم مار مخايل في 6 شباط، مؤمناً غطاء مسيحياً ممن مثّل حينها 70% من اصوات المسيحيين!!
بدأت تمارين التعطيل بالاعتصام في 30 تشرين الأول 2006 في وسط بيروت بنصب أكثر من 600 خيمة حول مقر رئاسة الحكومة، التي كان قد أسبغ عليها قبل أسابيع صفة “حكومة المقاومة”. ولم يتم فكّ الاعتصام إلا مع عقد اتفاق الدوحة في 21 أيار 2008 بعد 18 شهرًا على بدايته وبعد المرور بـ 7 أيار “المجيد”. وقد تسبب الاعتصام بشلل تام في وسط بيروت وكارثة اقتصادية. دون أن يرف جفن لحزب “المقاومة”.
فالمهم الوصول الى الغرض، وهو الضغط لتغيير آليات السلطة وتشكيل الحكومات بهدف فرض الثلث المعطل. تكفي التسمية لفهم الغاية منه: تعطيل أي قرار قد تتخذه الحكومة دون موافقة حزب الله. بحسب بروفيسور مسرّة: كل ما يعطل تصريف الاعمال وحسن سير المؤسسات ويجمد الحكومة يعتبر غير قانوني وغير دستوري.
وضع الحقوقي والمرجع الدستوري حسن الرفاعي كل ذلك في “إطار الصراع المندلع لتجويف إتفاق الطائف وكسر قواعد الدستور وفرض وقائع مستفزة على خلفياتٍ طائفية يقوم بها فريقٌ سياسيّ مسيحي (التيار الوطني الحر) مدعوماً من «حزب الله» في الطريق إلى الإنقلاب على القواعد الناظمة للحياة السياسية في لبنان”. من هنا نفهم الاستماتة بفرض انتخاب الرئيس عون.
ولم يكن ذلك بالأمر البسيط لأنه في جوهره يؤدي الى تغيير جوهر النظام اللبناني الديموقراطي الذي يُعرّفه أنطوان مسرّة بأنه ينتمي الى: الأنظمة البرلمانية التعددية – الخاضعة لكل معايير الأنظمة البرلمانية – ولكنها تدمج سياقات تنافسية competetifs او cooperatifs تعاونية، في سبيل إدارة التعددية الدينية والثقافية.
فالنظام اللبناني ديموقراطي برلماني أكثري، يؤدي تطبيقه الى تكوين أكثرية تحكم وأقلية تعارض. ولمن يعتبر أن النظام اللبناني كان توافقياً على ما مُسخ مؤخراً بالممارسة وبإقرار قانون الانتخاب المشوّه الملقّب بالأرثوذوكسي، يغيب عن باله التعريف الدقيق للنظام اللبناني الذي وضعه الأب المؤسس لمفهوم التوافقية أرنت ليبهارت:
” لا تنتمي الوسائل المعتمدة في انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان الى انظمة التمثيل النسبي المألوفة غير أنها كانت نسبية من حيث المفعول. أي إنه نظام تمثيلي نسبي مسبق الظبط على أساس طائفي او ديني. وأضيف مناطقي أيضاً. وهو يكتب حرفياً عن النظام اللبناني:” وكثيرا ما امتدح ايضا لكونه نظاما نسبيا ينتج التسويات والانسجام لأن المرشح يحتاج فيه الى اصوات الناخبين من طائفته ومن الطوائف الاخرى. غير ان هذا كان عيباً من وجهة النظر التوافقية، لانه لم يكن يجمع الناطقين الحقيقيين باسم الطوائف في موقع ملائم للتسويات السياسية: “فالأنصار النموذجيين لكل طائفة كانوا عرضة لأن يتفوق عليهم افرادا ألين جانباً”. غير أن نتيجته كانت توافقية.
لقد أدت الممارسات عبر الضغط المستمر، سواء بالعنف والاغتيال، او بتعطيل البرلمان وتأخير الانتخابات النيابية وتأخير تأليف الحكومات وتعطيلها، الى جانب الاغراءات المصلحية والتي تتلخص ب: لكم الكراسي ولي السلاح، الى تغيير النظام. ولقد قام البعض باحتساب فترات التعطيل بالقوة والابتزاز فبلغت قبل ثورة 17 تشرين 7 سنوات، وتكاد تصل الان الى 9 سنوات وهي مرشحة للزيادة.
الخلاصة ان التحالف الذي أبرمه عون مع “حزب الله” أضر بلبنان لانه تحالف ثنائي أقيم على حساب الطوائف الأخرى، ما أفسد الوحدة الداخلية وأسقط العيش المشترك. من هنا مطالبة البطريرك “بتحرير الشرعية”.
هنا تكمن أهمية وثيقة الاتهام الدستوري بحق ميشال عون التي نشرت الاسبوع الماضي، وهي وثيقة قانونية ومقاربة دستورية تستند الى اجتهادات عالمية راسخة. وكان سبقها قبل نحو عام الوثيقة التي طالبت باستقالة الرئيس، ووقعت من مجموعة من النخب السياسية. تأتي الوثيقة في سياق تزايد أعداد المواطنين الذين يتهمون الرئيس بالخيانة العظمى علناً على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الاجتماعات من قبل افراد ومجموعات سيادية تتزايد أعدادها مع الوقت وتتسع وتلفت اليها الانتباه.
أشار رئيس مجلس الشورى السابق شكري صادر: “قدمنا في الوثيقة أهم الخروق التي قام بها رئيس الجمهورية ميشال عون… فالرئيس الذي حلف اليمين على الدستور لا يستطيع أن يقول هناك ثغرات في الدستور ويضع مكانها الأعراف التي لم يعرفها لبنان كنظام ديموقراطي برلماني”. وسبق للمحامي حسان الرفاعي ان أشار في مقال له: “عون أقسم يميناً على دستور لا يقتنع به”.
ومما سجّلته الوثيقة: ” ان المعارك والاشتباكات الدستورية التي رافقت عهد الرئيس عون، ولا زالت، مبنية على نظرية ابتداع اعراف جديدة، وملء المناطق الرمادية في الدستور، والإقدام حيث الاتاحة، كل ذلك بهدف تحوير وتطويع الدستور كي يلائم الرئيس المَلِك الذي له ان يستنسب بمفرده “المصلحة العليا للدولة”، إنه “المرشد” الموجّه الحَكَم الذي لا يقيد توجيهه أي قيد. ان هذه الأفكار والتصرفات الإنقلابية هي التي جعلت تناول الدستور مادة يومية في الصحف وعلى ألسنة المنظّرين الطارئين، فسممت الجو وأثارت العصبيات والغرائز وأسست للفتنة. وأصبح ينطبق على صاحبها نص المادة 301 من قانون العقوبات اللبناني التي تقع تحت عنوان “في الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي”.
باختصار يظهر ان الرئيس عون يضرب عرض الحائط نظامنا الجمهوري الديموقراطي البرلماني، ويتوق الى “الملكية المطلقة” حيث الملك يحكم ولا يحاكم”.
لذا أكدت الوثيقة أنه “من موقع المسؤولية الوطنية فإننا ندعو الجميع إلى توحيد الصوت لإفهام رئيس الجمهورية بأن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال، فهو الوحيد في الجمهورية الذي أقسم على الدستور ما يلزمه بأمور مهمة، أولها أن يكون حَكماً لا فريقاً.. وهذا ما لم نره طوال العهد الحالي. من أجل هذه الغاية، وضعنا هذا النص لعله يكون مدعاة للتفكير والتأمل والتحرك”.
إن مهمة رئيس الجمهورية تطبيق الدستور وليس تغييره.
أما الخروقات التي وردت في الوثيقة، فهي: الامتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية خلافاً للدستور والقانون. ومرسوم التجنيس وعوراته. و تمسك الرئيس بحصة وزارية له أو تمسكه بتعيين الوزراء المسيحيين خلافاً للدستور. الاشارة ايضاً الى تدخل الرئيس في تأليف الحكومة وانقلابه على النظام البرلماني وأصوله. ناهيك عن قيام “احد وزرائه” الوزير راوول نعمة بانتهاك مبدأ فصل السلطات بتوجيهه كتابا إلى المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، عبر وزيرة العدل، يطلب فيه حذف فرضية أن يكون الانفجار ناتجاً من عمل عسكري عدائي أو عملية إرهابية منظمة وحصر التحقيق بجرم الإهمال، وذلك بذريعة التزام شركات التأمين دفع التعويضات لمصلحة المتضررين. بناء على خطاب للسيد نصرالله طلب الامر نفسه.
وبديهي ان تتهم الوثيقة الرئيس عون بالاستقواء بـ”حزب الله” وإيران. اضافة إلى التفريط باستقلال لبنان وسلامة أراضيه.
تثبّت هذه العريضة خروقات رئيس الجمهورية للدستور، كي تكون وثيقة مرجعية بيد الشعب اللبناني تبين جميع تجاوزات هذا العهد. ربما لن يكون سهلاً التوصل فعلاً الى محاكمة الرئيس وعهده حالياً، لكنها ستشكل مستنداً قانونياً ودستورياً من أجل المستقبل. انها إثبات قانوني وحقوقي لفشل رئيس الجهورية في القيام بدوره كحكم وكحارس للجمهورية وللدستور، يمكن الاعتماد عليها في معارك استعادة الدولة والحفاظ على الدستور.
إن أهمية مثل هذه الوثائق في كونها حجر أساس في بنيان استعادة السيادة وتصويب الاعوجاج. كما سبق وفعلت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تعرضت لكثير من الانتقاد ومنعت من إتمام عملها والوصول إلى الوثائق والمعلومات، لكنها في الحكم الذي أصدرته، وجهت البوصلة وأشارت إلى القاتل الذي ينتمي إلى حزب الله. فبات حكمها نقطة ارتكاز لا يمكن تخطيها. كما ستكون هذه العريضة نقطة ارتكاز ومرجعاً لكل مدافع عن الدستور.
كما سبق وفعل بروفسور مسرّة في شهادته بعدم شرعية قانون الانتخاب.
monafayad@hotmail.com