من نافل القول إن الانطباع العام لدى شعوب ما يسمى “الهلال الخصيب”، أن تدخلات الحرس الثوري الإيراني وامتداداته في المنطقة هي التي خربت وأفقرت دولا غنية ومتقدمة كالعراق ولبنان أو مكتفية كسوريا، وجعلت الحياة فيها جحيماً لا يطاق. أما الجمهور الواسع الذي كان يحتضن أنشطة حزب الله في لبنان، ومثيلاته في العراق، ففقدَ حماسَه، لم يحتفظ بالحماس إلا الذُباب الإلكتروني. حتى “شُعيرة” “فدا صرماية السيد” اختفت، فثمن “الصرماية” يكلف ثروة.
وفجأة يكتشف وزير الدفاع الإيراني مستنكراً، أن الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق معادية لإيران!! متجاهلاً اعتراضات الشعب الإيراني نفسه.
يجدر الاعتراف هنا أن إيران ما كان لها أن تجد موقع قدم في العالم العربي كي تتسلل منه لتعيث فساداً، لو أن النظام العربي نجح بإقامة حكومات ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتؤمن لشعوبها الحرية والرفاه، وما كان لها أن تتمركز في لبنان لولا الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1982، التي استغلته كي تنشئ ما سمي « مقاومة إسلامية ».
أما حرب 2006 فنتجت عن تضافر المصلحة الإسرائيلية والمصلحة الإيرانية لتدمير لبنان.
إسرائيل جربت أحدث أسلحتها التدميرية، وعطلت دور لبنان الاقتصادي. أما إيران فهيمنت على لبنان واستكملت إنهاء جميع أدواره.
وهكذا بعد 15 عاما على تلك الحرب وصل لبنان الى الحضيض الذي نعيشه: غابة تحكمها وحوش كاسرة بربطات عنق تديرها إيران بواسطة مرشد معصوم.
فكيف تمكنت إيران من استعمار هذه البلدان والسيطرة عليها؟
في البداية أنكرت إيران فارسيتها، فغزت بلادنا باسم ثورة إسلامية وتشيّع غير مستفز. وعندما استتب لها الأمر، صار بإمكانها التبجح باستعادة إمبراطوريتها الفارسية. تطبق إيران حرفيا نمط pattern سياسات الإمبراطورية الفارسية زمن مجدها الغابر أيام الأخمينيين والساسانيين. تفيدنا بذلك الوقائع التي تجري في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
هي لا تحتل البلدان مباشرة، بل تستخدم حاكما (ساتراب) محليا يشغّل لصالحه طبقة يعيّن أعضاءها في الوظائف القيادية لإدارة الدولة: من سياسيين وجيش وقضاء وإدارة، ويمنحهم الامتيازات. وهي لا تحارب بقواتها، تقيم الجيوش المرتزقة في البلدان التي تحتلها.
وأكثر ما توليه عنايتها تنظيم أجهزة الأمن (« عيون الملك »)، مهمتها المراقبة والتفتيش في الولايات وإطلاع الملك على أحوالها. وتنهي ذلك بتأمين الطرق منها وإليها، فتشقها وتصلحها. والجديد الآن أنها تشارك قدراتها في صناعة السلاح على جميع أعضاء محور الممانعة، “كي يصطادوا سمكهم بأنفسهم”.
وإلا كيف لها أن تتبجح باحتلال لبنان ووصولها إلى المتوسط!!
تبدو أصل المشكلة، أن إيران لم تغفر للإسلام اجتياحه لها، كما لسائر البلاد، متسبباً بالقضاء على عاصمة الساسانيين في بلاد فارس.
شكّل هذا الاجتياح العربي الإسلامي لإيران نقطة تحول فاصلة في تاريخها. فما قبل الإسلام مختلف عما بعده، اختفت معه الحضارات التي سادت قديما، وصارت جزءا من الإمبراطورية العربية الإسلامية.
لا شك أن إيران تأثرت بالثقافة العربية أكثر مما تأثرت هذه الأخيرة بها. لكن ذلك لم يحصل بسلاسة، ولم يحصل دون مقاومة لا زالت تطبع السلوك الإيراني حتى الآن. لكن المقاومة لم تقتصر على الجانب الإيراني، فإذا أخذنا مثلا « دولة المناذرة »، التي كانت قد وقعت تحت الهيمنة الفارسية، نجد أنها احتفظت بلغتها العربية. ونفس الملاحظة تنطبق على إيران، التي بالرغم من تأثرها بالديانة العربية الإسلامية لم تتأثر كثيرا باللغة العربية.
وبقيت إيران على إسلامها بالرغم من التحديات والثورات والقلاقل التي طبعت علاقتها بالحكم العربي، ورغم النزعة القومية العارمة التي يتميز بها الإيرانيون، وتمثلت في « الشعوبية » كتيار ثقافي، حتى في ظل ذروة السيطرة العربية. لكنها صنعت ما يمكن أن نسميه إسلامها الخاص الذي ينفرد عن التيار الإسلامي العام.
فبعد انهيار الدولة العباسية على يد المغول عام 1258، سقطت المنطقة في فوضى واضطراب، فرافقتها محاولات للنهوض. ينطبق هذا على إيران التي كانت إمارة تحكمها قبيلة تركمانية، فانهارت على يد الصفويين في مطلع القرن السادس عشر والذين يرجح أنهم تركمان أيضا.
ويشير البعض إلى أنهم ينحدرون من أحد شيوخ الصوفية، صفي الدين الأردبيلي، الذي أنشأ طريقة للعودة بالإسلام الى جذوره. ثم تحول أحفاد الأردبيلي من شيوخ طريقة إلى أصحاب دعوة سياسية تهدف إلى إقامة دولة مبنية على أساس المذهب الإسماعيلي.
وما بدأ كحركة احتجاج روحي تحول على يد سلالة صفي الدين إلى حركة تشيّع نشطة اتخذت من الإثني عشرية مذهبا وادعت انتسابها إلى آل البيت. فأسس، الحفيد الخامس للأردبيلي، إسماعيل، دولة عرفت بالدولة الصفوية في إيران التي كانت على المذهب السني كباقي المنطقة حينها.
اتصف الصفويون عموما بالعنف والإرهاب ومارسوهما لتطويع الإيرانيين وفرض التشيع عليهم. فاصطدم التشييع بمقاومة رجال الدين السنّة، فضربت أعناق من رفض منهم ولاذ البعض بالفرار وخضع الآخرون للإرهاب.
لذا توجب البحث عن رواية – أسطورة مؤسسة تجمع بين الفكر الزرادشتي القديم ونوع من « تفويض إلهي » لإضفاء الشرعية على الحكم الجديد. من هنا جاء تبليغ إسماعيل برسالته عبر رؤية الإمام المهدي الغائب. لكنه تفويض إلهي يحتاج إلى منظرين وإيديولوجيين يدعمون توجهات الصفويين لمساعدتهم على بث العقيدة الجديدة في الحشود الإيرانية، فلجأوا إلى علماء جبل عامل من لبنان، (ربما لرفض علماء النجف!!)، الذي كان حينها أحد معاقل الشيعة، فلبنان موطن الأقليات والمضطهدين، لترسيخ العقيدة الشيعية. من هنا علاقة إيران الخاصة بشيعة لبنان. لكن معظم هؤلاء لم يحتملوا البقاء في إيران فعادوا الى لبنان.
وهكذا تم توحيد إيران بهويتها الجديدة بالاستناد إلى تراث تم ابتداعه واستُكمل بشن حملة على أهل السنّة وابتداع سبّ الخلفاء ولعنهم مع الصحابة، وغيرها من الممارسات غير المعهودة، حتى أن شريعتي وصف التشيع الايراني بأنه بعيد جدا عن تشيع عليّ المعروف بالتعدد والانفتاح والاجتهاد والموت من أجل الحق.
وقد يصح اعتماد رأي علي الوردي، عن دور الصفويين في التاريخ، انهم خدّروا مذهب التشيّع خاصتهم وروّضوه. فأزالوا عنه النزعة الثورية التي كانت ملتصقة به في العهود السابقة، وجعلوه مذهبا رسميا لا يختلف عن غيره من المذاهب الدينية الأخرى. و”بهذا دخل التشيّع في طاحونة السلاطين فاختفت منه تلك الروح الوثابة التي بعثها فيه علي وأولاده على توالي الأجيال. وتحوّل علي، الذي كان أنشودة الثورة في تاريخ الإسلام كله، ألعوبة على يد الصفويين تُمثَّل في المسارح”.
من هنا تمييز علي شريعتي، فيلسوف الثورة، ومن القلائل الذين سعوا إلى الوحدة الاسلامية بعيدا عن التمذهب، بين شيعيتين: شيعة الدولة الصفوية ـ مع رجال دين فاسدين وغير نافعين ـ وشيعة علي، صهر النبي، حيث يتجسد الصراع من أجل العدالة والحقيقة. ربما لهذا بقيت الثورة على مسافة من علي شريعتي الذي توفي بطريقة غامضة في لندن قبيل انتصارها.
لم يكتفِ الخميني بتأجيج الصراع السني ـ الشيعي، بل وتسبب بانقسام الشيعة أنفسهم، كما تشير لورا هنسلمان. فبسبب عقيدته، أي « ولاية الفقيه » التي تدعو إلى تسلم رجال الدين مقاليد السلطة السياسية المطلقة، انقسم البيت الشيعي ـ لأول مرة ـ إلى حوزتين متناقضتين ومتنافستين: الحوزة العلمية الصامتة في النجف، والحوزة الثورية والمسيسة في قم.
لا بد من الإشارة هنا إلى إجماع رجال الدين الشيعة على مر القرون، على أن ولاية الفقهاء هي سلطة توجيه وحكم، تقتصر على أولئك العاجزين عن اتخاذ قرارات أو الاعتناء بأنفسهم كالأيتام ومن يعانون من أمراض عقلية، دون أن تمتد لتشمل مجتمع المؤمنين بعامة. فولاية الفقيه التامة هي مهمة الإمامة الوحيدة التي لم يضطلع بها تاريخيا فقهاء الشيعة، لأنهم يؤمنون أنها تعود إلى الإمام الغائب وهو من سيتكفل بها عند عودته. وبانتظار ذلك تمارَس “ولاية الأمة على نفسها” بحسب الشيخ محمد مهدي شمس الدين. بينما وسّع الخميني مفهوم الولاية ليتعدى معناها التقليدي المذكور آنفا إلى أن جعل خامنئي من نفسه ظل الله على الأرض، أي حاكما مطلقا.
وبحسب فرنسوا توبال، دعمت ممارسات إيران، منذ قيام الدولة الإسلامية في العام 1979، إحياء العصبية الشيعية لمواجهة الإسلام السني للدول العربية. وبعد أن نجحت ركيزتها الأولى ودرة تاجها “حزب الله”، قامت بتعميمها. على غرار نموذج الاتحاد السوفياتي الذي كان في إمكانه الاعتماد على دعم الأحزاب الشيوعية في مختلف مناطق العالم. فأوجدت جماعات شيعية موالية لها تحت مسميات عدة، على حساب ولاء هؤلاء لدولهم الوطنية.
التناقض هنا أن اعتماد التشيع كنقطة الارتكاز الأيديولوجية تثير إشكالية مهمة، فالمذهب الشيعي لا يركن إلى مفهوم الأمة ـ القومية التي تحمل خطر تقسيم الإسلام، والمفكرون المسلمون الشيعة حذروا دائما من الواقع الوطني ـ القومي. لكن المفارقة ونقطة الضعف عند إيران أنها دمجت بين شيعيتها وقوميتها الإيرانية وجعلتهما أمرا واحدا. لذا عندما تدعو إلى تبعية الشيعة للجامعة الشيعية ومركزها الدولة / الأمة الإيرانية فإنها تطرح عليهم التحدي الصعب بالتخلي عن انتمائهم القومي أي عروبتهم. فكيف يمكنهم ذلك على خلفية الصراع التاريخي وحمولة العداء الذي تؤجّجه ممارسات إيران نفسها واعتداءاتها بوجه مفضوح في لبنان والعراق أو في سوريا! بحيث فقدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية آخر ادعاءاتها بدفاعها عن المظلومية والمظلومين وتحولت إلى الظلم والاستبداد الفاضحين، وأضافت التبجح والاستفزاز مؤخرا بإعلانها استعادة الإمبراطورية الفارسية واحتلال 4 عواصم عربية والتصريح أن لبنان خط دفاعها الأمامي بوجه إسرائيل!؟
كل ذلك يطرح على هؤلاء الشيعة مشكلة خيار الهوية: هل سيتخلون عن هويتهم العربية ليصبحوا “طابورا خامسا” لطهران؟ أيكونون شيعة قبل كل شيء؟، ما يفترض فيهم أن يديروا وجوههم نحو الوطن الجديد للشيعية الذي تجسده إيران الملالي؟ أم هم عرب أولاً، وينتمون إلى دولهم العربية كمواطنين متساوين في الحقوق في دولهم العربية الوطنية مع ممارستهم مذهبا مختلفا في الإسلام؟
إن أزمة هوية العرب الشيعة في بلادنا تقودنا إلى تساؤلات تتخطى المجال الطائفي لتطال اندماج هذه الجماعات في أنظمة ومجتمعات ذات أكثرية. وهذه المسألة ليست بسيطة تطرح للبحث والنقاش فحسب، بل يتوقف على حلها استقرار واحدة من أهم مناطق العالم. فقد برهنت التطورات الأخيرة فشل إيران نفسها، وانكشاف أذرعها في أدوارهم الهدامة العاجزة عن تحقيق أبسط شروط النجاح لدولة.
وربما يحتاج ذلك كله الدعوة إلى مؤتمر للشيعة العرب يحددون فيه خياراتهم الوطنية ووجهة ولاءاتهم لدولهم أم لإيران؟ وأي مرجعية دينية يختارون، تلك العربية في النجف أم الفارسية في قم؟