هل هو قدر لبنان أن يعاني قبل أن يرى النور في الأفق؟
لا يغيبَنَّ عن أيّ كان معاناة لبنان المستمرّة من سبعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا. فالتغَيّرات في المنطقة إنعكست دائماً على الداخل حتى دون تغَيّر بالأشخاص أحياناً. فعلى سبيل المثال، المجلس النيابي هو نفسه الذي عايش سليمان قبلان فرنجية من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٦ حيث إنتخب الياس سركيس، ثم في ١٩٨٢ حيث إنتخب بشير وأمين بيار الجمَيّل ثم رينيه معوّض و الياس الهراوي في ١٩٨٩.
قبل الإستحقاق النيابي طالعنا بعض أبواق السلطة بأنه ليس هناك حل للبلد إلا من خلال الإنتخابات النيابيّة. وها هي ٩ شهور تناهز إتمام ذلك الإستحقاق دون إنجاز يُذكَر!
لم يحاول أحد فرض تحالفات قد تؤدي إلى تغيير المشهد. فلم يتجرأ من هو قادر أن يحدث خللا في التركيبة مثل الترشح على مقعد شيعي لإرباك الثنائي، مع إن خرقاً كان يمكن أن يحصل في بعبدا و دائرتَي الجنوب الثانيَة و الثالثة وجبيل وزحلة وبعلبك الهرمل… ولا حتى مسيحياً، حيث أركان السلطة ساعدت بعضها أيضاً لتحافظ على مواقعها. فَلولا أنانية و عنجهية البعض لما رأينا جبران باسيل نائباً، ومثله بعض أتباعه في دوائر أُخرى.
ها هي السلطة تعيد تثبيت نفسها ونهجها، وآخرها ضرب مقعد طرابلس السني ضربة معلّم ممانعجية استراتيجيّة و استبداله بالمرشح الراسب فَيصل كرامة لترئيسه كتلة سنيّة ممانعة في وقت تم إلهاء الجمهور والشارع بطعون لا تقدّم و لا تؤخر في دوائر كالجنوب الثالثة وبيروت والمتن الشمالي.
الكتل النيابيّة تغيّرت في الأحجام لكنها لم تتغَيّر في المضمون، سوى بعض الخروقات التي لا تؤثر سوى بتغيير المشهد عند المواطن لإعطاء الناس “إبرة بنج” حين تمعن الطغمة الحاكمة بضرب القوانين و القيَم و الدساتير و توقيع الإتفاقات بإسم الشعب اللبناني دون علمه.
الفضيحة الكبرى كانت بترسيم الحدود البحريّة مع “إسرائيل”!
اذا أننا لم نسمع صوتا سياسيا معارضا إلا بعد بيان “سيّدة الجبل” الذي تلاه صوت النائب سامي الجمَيّل عن حزب الكتائب ثم المداخلة القانونيّة لمن يسمّون أنفسهم “تغيريين” حيث قدّم بإسمهم النائب ملحم خلف أطروحة قانونية مفصّلة و موسّعة لم يستجب لها أي مسؤول. وتلاهما بيان خجول و متأخر من القوّات اللبنانيّة كان الغرض منه رفع العتب جماهرياً ليتبَيّن لاحقاً في تصريح لجعجع مع الصحافي جورج صليبي أنّه كفّ عن المطالبة بأمرَين بناءاً على طلب السفيرة الأميركية “دوروثي شيا” أحدهما ترسيم الحدود و الآخر بند الكابيتال كونترول.
هنا الإثبات الأكبر أن الحلّ في لبنان لا يأتي من الداخل، وليس بإجراء إنتخابات ظهر فيها أن العرس أهم من العريس كما هو الحال بالنسبة لإنتخاب رئيس لن يقدّم أو يؤخّر مع الإحترام لموقع الرئاسة و للإستحقاقات الدستورية. والدليل هو الواقع الذي نعيشه الذي لم يتغَيّر بفعل الإنتخابات بالرغم من الحملات والوعود الرنانة بالإصلاحات وبمحاربة الغلاء و السيطرة على الدولار و الحد من الإنهيار الإقتصادي، لأن المشكل في مكان آخر ألا وهو “رفع الإحتلال الإيراني عن لبنان”! فالأمر سيّان بحقبة الإحتلال النازي لفرنسا حيث كان هناك أكثر من ٤٠ مليون فرنسي مناصر للجنرال الفرنسي الخائن “بيتان” وحكومة “فيشي”. الحلّ في فرنسا لم يكُن إنتخابات كما أوهمونا في لبنان! الحلّ كان مقاومة الإحتلال! هكذا علينا مقاومة الإحتلال الإيراني للبنان المتمثل بأدوات ودُمى خونة كالجنرال بيتان الفرنسي الهوية النازي الإنتماء.
هل من الممكن أن تأتي الشركات النفطية الأجنبية كما شهدنا في الأيّام القليلة الماضية حيث تقاسمت شركات “توتال” و “إني” و”الوطنية القطرية” التنقيب عن الغاز والنفط في مياهنا الإقليميّة دون ضمانات بإستقرار المنطقة؟ طبعاً لا. في الوقت الذي تتقهقر فيه إيران داخلياً حيث خرج تقرير على بلومبرغ يفيد أن الشعب الإيراني غير قادر على التدفئة لعدم توفّر الغاز و تدني درجات الحرارة لما دون الصفر في اليوم نفسه الذي يزور فيه بعض أدوات الحرس الثوري لبنان عارضين خدماتهم للمعامل الكهربائية حيث يحرمون شعوبهم منها كما حرموا الشعب السوري بعد أن عرضوا عليه ووقّعوا معه إتفاقية إنشاء معامل كهرباء لم ينفّذوا شيئاً منها… دون أن نصرف النظر عن الإعدامات المتزايدة حيث بلغت ٥٥ إعدام معلن في الشهر الأوّل من ٢٠٢٣ مع احتجاز أكثر من ١٠٠ محكوم بالإعدام بإنتظار تنفيذ الأحكام الجائرة بحقّهم.
بالأمس القريب بدأ اعتصام بعض النواب في البرلمان من أجل تنفيذ الدستور و إنتخاب رئيس، الأمر الذي أزعج رئيس المجلس النيابي نبيه برّي فعبّر عن إمتغاضه علناً و حتى الساعة يبيتون دون كهرباء وتدفئة لعدم سماحه بإيصالها لهم و لو إنضم الآخرون إليهم بالفعل و المضمون وليس فقط بالشعارات والمجاملة. فمن تضامن معهم بالبيانات والإعلام أكثر من ٤٠ نائباً لو نفذوا اعتراضهم قولاً و عملاً لوضعوا برّي و من معه أمام الأمر الواقع لإجراء جلسات إنتخابيّة من دون توقّف. وكان التضامن الشعبي كبيراًً وكبيراً جدّاً.
صحيح النوّاب هم إنتاج الشارع ويعكسون الخيار الشعبي، لكن هذا لا يعني أن الشعب على حق. فهو إنتخبهم سابقاً، والنتيجة هي الجحيم الذي نعيش فيه اليوم. قانون إنتخاب جائر وطائفي ونظام حكم حزبي ميليشياوي فاسد يعيش على المحسوبيات لا يمكن أن ينتج أفضل من هذه السلطة. فهذا الشعب هو كالنموذج الذي عنه يقول دوايت أيزنهاور “الشعب الذي يضع امتيازاته فوق مبادئه سرعان ما يفقد كليهما”!
من هنا مسؤولية الشعب عدم إنتاج نفس السلطة وطلب التغيير. فهذا المنطق مستحيل كما يقول جورج أورويل: “الشعب الذي ينتخب الفاسدين والإنتهازييّن والمُحتالين والناهبين والخونة، لا يعتبر ضحية بل شريكاً في الجريمة !”
هل سيبقى شعب لبنان شريكا؟ هل يقبل فعلاً هذه الشراكة؟ لو كان ضحيّة فعلاً كان انتفض وكان غَيّر و لم يخنع و لم يخضع بغالبيته كما لسوء الحظ لبنان خاضع بغالبيته وبسلطته للإحتلال الإيراني ومتواطىء معه مباشرةً أو غير مباشرةً، علناً أو بالمخفي! ولا يفعل شيئا لإزعاجه و مقاومته بل يزيد بوجعنا نحن الضحايا.
لن يبقى بلد الـ١٠٤٥٢ كلم ١٠٤٥٢ ساعة دون رئيس لكن سيبقى شعبه ١٠٤٥٢ سنة مرتهنا ودون وطن وكرامة إن لم يقاوم.